تفكيك الشر وإعادة بناء العالم
الشر .. مجرد كلمة ..
ينفر منها أصحاب الفطرة السوية ، ويستعذبها أصحاب الأنفس الخبيثة .. لكنها تحمل في مضمونها الألم والعذاب ؛ فدوما تترجم لأفعال يكون من شأنها الإضرار بالإنسان .. فالحط من كرامة الإنسان شر ، والمعاملة اللا إنسانية شر ، والمعاملات التمييزية ، وغياب المساواة ، والتحيز والتعصب وغياب العدالة والفقر والفساد والاستبداد .. كل ذلك أيضا من الشر .. إن الشر اختصارا هو كل ما من شأنه إهدار الحقوق أو حتى مجرد انتقاصها .
و الحقيقة أن عالمنا المعاصر يعج بالشر ، للحق فيه ـ على خلاف طبيعته الثابتة ـ ألف وجه ، يصبغه أولي النفوذ والقوة باللون الذي يحقق مصالحهم .. ضاربين عرض الحائط بالوجه الحقيقي للحق .. وعبثا تضيع أنات المستضعفين
ـ على كثرتهم ـ وصرخاتهم أدراج الرياح .. لا يلتفت إليهم أحد وكأنهم ما خلقوا في عُرف الأقوياء إلا لهكذا حياة بائسة .
فإن لم يكن من الشر أن الأرض بها من الجوعى ما يفوق المليار من البشر فماذا يكون
؟! وإن لم يكن من الشر تعرض أكثر من نصف سكان الأرض لاستبداد الأنظمة الحاكمة فماذا يكون
؟! وإن لم يكن اختطاف الأمم المتحدة ذاتها وعجزها عن تحقيق العدل من الشر .. فماذا يكون ؟ وإن لم يكن انتشار الفساد على مستوى العالم من الشر فماذا يكون ذلك
؟
وما سبق ليس إلا بعض المظاهر الدالة أن ثمة انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان يمارسها الإنسان ضد أخيه الإنسان ، انتهاكات تضرب الإنسان في بنيانه الجسدي من قمة رأسه إلى أخمص قدمه ، وتضرب بنيانه المعنوي بداية من الحجر على عقله مرورا باعتقال لسانه داخل فمه وصولا إلى التفتيش في ضميره ونواياه .. وأن كل هذا الشر يدل أن أزمة حقوق الإنسان أزمة أخلاقية ؛ ومن ثم فهي أزمة تربية في المقام الأول .. فالاستبداد والفقر والفساد والسياسات التمييزية العالمية .. ما كان لكل ذلك أن يكون لو كان للقيم الأخلاقية ترتيبا متقدما على سلم الوعي العقلي بمضمونها وجوهرها ، وترتيبا متقدما على سلم الانفعال الوجداني بما وعاه العقل منها .. فحتما كنا سنجني كبشر أوضاعا أفضل مما نحن عليه الآن بشأن أزمة حقوق الإنسان .
ولذا فإن تصحيح الأوضاع وتعديل المسار يقضيان بوجوب تفكيك منظومة الشر في العقل والضمير العالمي للإنسان .. ومن ثم يقضيان بوجوب إعادة تربية الإنسان وفق منظومة القيم السماوية التي لا يتغير جوهرها بمرور الزمن .. و لا تفرق بين إنسان وإنسان ، وتنادي بالعدل حتى مع الأعداء .. وتؤسس لكرامة الإنسان المطلق ، وتؤمن بأنه الصانع الحر لمصيره .
إلا أن ثمة حقيقتان لا نستطيع الجدال فيهما ألا وهما
: أن البريق والصوت الأعلى على الساحة العالمية المعاصرة هو لحقوق الإنسان من المنظور الوضعي .. وذاك وضعا غريبا يشي بما عليه المسلم المعاصر ـ سواء على مستوى القيادة أو على مستوى الفرد العادي ـ من تخلي عن جوهر شريعة الإسلام ومقاصدها .. مما أتاح المجال لاستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير ، فدفع الإنسان المعاصر على هذه الأرض الثمن من حرياته وحقوقه .. ومن ثم فلا مناص من أن تَعْبر المجتمعات الإسلامية أزمتها الحضارية ، وكذلك تعبر أزمتها في مجال حقوق الإنسان كشروط مسبقة وضرورية لعبور مطلق الإنسان لنفق الحقوق المظلم في العالم المعاصر .. ومن ثم تفكيك الشر العالمي وإعادة بناء العالم .
والحقيقة الثانية : أن ما أتى به الفكر الإنساني في مجال حقوق الإنسان لم يكن كله شر ، بل اختلط فيه الطالح بالصالح والخبيث بالطيب .. ولذا يكون لزاما علينا ـ في إطار تلك الرؤية الساعية لتفكيك الشر العالمي ـ طرح كل ما هو طالح من هذا الفكر وما ترتب عليه من تطبيق ، والإبقاء على الصالح منه بغية تدوير منظومة حقوق الإنسان على النحو الذي يكفل لمطلق الإنسان التمتع بما أراده له الله سبحانه من حقوق وحريات .
إذ الإنسان منزوعة منه حقوقه ومهدرة على مذبح الطغيان والفقر والفساد حرياته .. لا يمثل نموذجا للإنسان الحي .. الإنسان الحر .. فهو إذ ذاك في وضع للأنعام أقرب .. وما ذاك مراد رب العالمين من خلق الإنسان .. وهذا هو الشر عينه .
