قصه للكاتب الكبير ماركيز ...من ترجمتى

المشرفون: Ghadat2009،نبضة...

أضف رد جديد
لوسفير
أكاديمى نشيط
أكاديمى نشيط
مشاركات: 174
اشترك في: 09 فبراير 2009, 2:57 am
Favorite Quote: لا حياة بدون يأس ولا يأس بدون حياة (وعجبى)

قصه للكاتب الكبير ماركيز ...من ترجمتى

مشاركة بواسطة لوسفير »

وصلنا إلي أريزو قبل منتصف النهار بقليل، وقضينا أزيد من ساعتين في
البحث عن القصر الذي يدل علي عصر النهضة، الواقع في ذاك المكان
الشاعري من القرية البدائية، والذي اشتراه الكاتب الفنزويلي ميغيل أوتيرو
سيلفا .آان يوم أحد من أول أسبوع من شهر آب (أغسطس)، حارا ومثيرا
للأعصاب، ولم يكن من السهل مصادفة شخص يعرف شيئا عن القصر في
الشوارع التي تغص بالسائحين. وبعد عدة محاولات للبحث بدون جدوي عدنا
إلي السيارة وغادرنا البلدة عبر طريق صغير تحفه أشجار السرو دون هدف
واضح، لكن امرأة عجوزا آانت ترعي الإوز دلتنا في النهاية علي مكان القصر
بالتحديد، وقبل أن تودعنا سألتنا إن آنا سنقضي الليلة هناك، فأجبناها، وفقا
لما آان مقررا في الدعوة، بأننا ذاهبون فقط للغذاء، فقالت:
هذا لحسن الحظ، لأن المكان يثير الرعب.
وبما أننا، زوجتي وأنا، لم نكن نؤمن بأشباح منتصف النهار، فقد سخرنا من
آلامها، لكن طفلينا، البالغين من العمر تسعا وست سنوات، انتابهما الفرح
لكونهما سوف يريان أشباحا حقيقية.
وجدنا ميغيل أوتيرو سيلفا، الذي آان علاوة علي آونه آاتبا جيدا مضيافا
رحب الصدر، ينتظرنا بطعام الغذاء الذي لا يمكن نسيانه أبدا. وبما أننا وصلنا
متأخرين فلم يكن لدينا وقت لكي نتجول في أرجاء القصر قبل الجلوس إلي
مائدة الطعام، ولكن منظره من الخارج لم يكن مما يثير الخوف، بل إن مشهد
المدينة التي آانت تبدو لنا من المكان المرتفع الذي نتغذي فيه آان آافيا
لطرد أي شعور بالكآبة.
آان من الصعب أن يتصور المرء آيف يمكن أن يولد في هذه البيوت المتكاتفة
فيما بينها فوق هذه الهضبة، حيث يعيش حوالي تسعة آلاف من الأفراد
متزاحمين أشخاص ذوو عبقرية دائمة، لكن ميغيل أوتيرو سيلفا قال لنا
بمزاجه الكاريبي أن أيا من هؤلاء الأشخاص الممتازين ليس أفضل ما في
أريزو، وأضاف:
إن أفضلهم آان هو لودوفيكو.
هكذا: لودوفيكو، بدون ألقاب زائدة، أحسن رجال الفن والحرب الذي بني هذا
القصر الحزين، والذي استفاض ميغيل أوتيرو سيلفا في الحديث عنه طيلة
وقت الغذاء، عن قوته التي لا تقهر وغرامياته التعسة وموته المأساوي،
وآيف أنه في لحظة جنون قاسية قتل عشيقته علي السرير الذي مارسا
فيه الحب ثم أثار عليه بعد ذلك آلاب الحرب الذين قطعوه أربا. وأآد لنا، بلهجة
يقينية، أن شبح لودوفيكو يخرج بعد منتصف الليل ويبدأ في التسكع في
جنبات القصر وسط الظلمة محاولا إعادة السكينة إلي مطهر حبه.
لقد آان القصر في الحقيقة واسعا جدا ومعتما، غير أن قصة ميغيل لم تبد لنا
في واضحة النهار مع امتلاء المعدة وانشراح القلب إلا مجرد مزحة شبيهة
بمزحاته الكثيرة التي يحاول الترويح بها علي ضيوفه. وخلال تجوالنا بعد فترة
القيلولة من دون أي شعور بالخوف بدت لنا الغرف الإثنتان والثمانون التي
يتكون منها القصر وآأنها خضعت لتغييرات آثيرة من طرف ملاآيه المتعاقبين.
قام ميغيل بإصلاح الطابق الأسفل آاملا وبني غرفة نومه بطريقة حديثة
وجعل أرضيتها من الرخام، وحماما بخاريا علي الطريقة الفنلدنية، وشرفة
زودها بورود فاقعة حيث تناولنا طعام الغذاء. أما الطابق الثاني الذي خضع
للاستعمال آثيرا خلال القرون الماضية فقد آان عبارة عن سلسلة من الغرف
التي لا تحمل سمات معينة خاصة بها، فيها أثاث ينتمي إلي مختلف العصور
ترك بلا عناية. لكن في الطابق العلوي آانت هناك غرفة لم تمس في
السابق يبدو أن الزمن لم يتمكن من الوصول إليها فبقيت آما آانت. إنها
غرفة نوم لودوفيكو.
آانت لحظة ساحرة. فهناك آان السرير المحاط بالستائر الموشاة بخيوط من
الذهب، والأغطية الحريرية العجيبة المتغضنة التي لا يزال بها أثر دم
العشيقة المقتولة، والمدفئة الرمادية المتجمدة التي تحول فيها الحطب
الأخير إلي حجر، والدولاب التي لا تزال به الأسلحة الفتاآة، والبورتريه الزيتي
في إطار من الذهب للفارس وهو يتأمل، مرسومة بيد واحد من آبار فناني
فلورنسة، لكن الذي أثار اندهاشنا هو وجود رائحة الفراولة ما تزال نفاذة في
غرفة النوم دون تفسير واضح .
الأيام في الصيف في توسكانا طويلة وبطيئة، حيث يبقي الأفق مستقرا في
مكانه حتي التاسعة ليلا. وعندما انتهينا من التجول داخل القصر آانت
الساعة تشير إلي الخامسة من بعد الظهر، ولكن ميغيل أصر علينا بأن يأخذنا
لنري اللوحات الجدارية لبييرو ديلا فرانسيسا في آنيسة سان فرانسيسكو،
وبعد ذلك جلسنا لتناول القهوة والدردشة تحت تعريشة المكان، وحينما عدنا
إلي القصر لحمل حقائبنا وجدنا أنهم أعدوا طعام العشاء، وهكذا اضطررنا
للبقاء.
فيما آنا نتعشي تحت سماء خبازية اللون لا توجد بها سوي نجمة يتيمة، أخذ
الولدان المشاعل من المطبخ وراحا يستكشفان غرف الطابق العلوي وسط
الظلمة. ومن مكاننا في الأسفل سمعنا أصوات رآضهم الذي آانا يقلدان به
الخيول علي السلم، وأنين الأبواب، والأصوات الناعمة السعيدة التي تنادي
لودوفيكو في الغرف المظلمة. وخطرت للولدين تلك الفكرة السيئة بأن
نقضي الليلة هنا، وساندهم ميغيل أوتيرو سيلفا سعيدا بها، فلم نجد في
أنفسنا الشجاعة الأدبية لنرفض الدعوة. بعكس ما آنت أتخوف، نمنا تلك
الليلة جيدا، زوجتي وأنا، في غرفة نوم بالطابق السفلي بينما نام الولدان
في الغرفة المجاورة. آانت الغرفتان معا قد أدخلت عليهما إصلاحات بشكل
جعلهما حديثتين، لذلك لم تكونا معتمتين. وفي انتظار أن يأخذني النوم بدأت
أتلهي بتعداد الضربات الإثنتي عشرة للساعة الجدارية الكبيرة، فتذآرت
تحذير راعية الإوز، لكننا آنا متعبين جيدا فنمنا نوما ثقيلا مليئا بالأحلام،
وصحوت بعد الساعة السابعة صباحا بقليل علي نور الشمس المتسلل عبر
فتحات النوافذ، وآانت زوجتي إلي جانبي ما تزال نائمة، فقلت في نفسي:
يا لها من حماقة، أن يؤمن المرء في هذا الزمن بالأشباح .
وفي تلك اللحظة بالذات اجتاحتني رائحة الفراولة التي آأنها قطفت للتو،
وصورة المدفئة الرمادية المتجمدة التي تحول فيها الحطب الأخير إلي حجر،
والبورتريه الزيتي للفارس الحزين في الإطار المذهب وهو ينظر إلينا من وراء
ثلاثة قرون. واآتشفت بأننا لم نكن في الحقيقة نائمين في نفس الغرفة
التي نمنا فيها ليلة أمس بالطابق السفلي، بل في غرفة نوم لودوفيكو،
تحت الستائر التي علق بها الغبار والأغطية الملطخة بالدم الذي لا يزال طريا
علي السرير اللعين
أضف رد جديد

العودة إلى ”قصص فصحى“