مجال القصة القصيرة
بعنوان
(إحتفال)
المركز الأول
إيناس حليم
***
خرجت من باب العيادة تتحسس بطنها في محاولة أمومية لاحتواء كامل أحشائها بكامل راحتيها.. بين عينين اغرورقت بالدمع ووجه تعلوه ابتسامة يصعب اخفائها، كانت جميع قسماتها تفضح فرحة ما.. انتظرتها طويلا..
عشرسنوات قضتها في صراع نفسي بين حبها لزوجها الفاقد للقدرة على الانجاب، والذي لم تعشق يوما سواه.. وبين عشقها الفطري للأمومة..
عشر سنوات قضتها بين عيادات أكبر الأطباء في داخل البلاد وخارجها..
وبين تلك الوصفات الغريبة للعطارين وعدة تجارب فاشلة لطريقة الحمل بالأنابيب..
عشر سنوات قضتها بين شعور بالأمل وبين عدة محاولات للتمسك بالأمل..
كانت تتعلق بكل شيئ.. وأي شيئ.. لم تترك بابا للأمل في الإنجاب إلا وحاولت طرقه.. حتى وإن كانت تلك الاعلانات التلفزيونية العقيمة التي تعدك بثقة حمقاء بوداع العقم..
واليوم.. وبعد كل هذا الجحيم.. وكل عذابات السنين.. تأتيها سعادة الدنيا في بضع كلمات انجليزية كُتبت على ورقة ناصعة البياض تشير إلى نتيجة تحليل حمل جلست تنتظره منذ ساعتين.. ومنذ سنوات..
وبجوارالكلمات علامة صغيرة جدا تعني "إيجابي"..
أخذتها عجلات قدميها في نشوى إلى إحدى محلات بيع مستلزمات الأطفال.. شعرت برغبة جامحة في شراء كل الملابس والأحذية والألعاب والسرائر الهزازة.. كل الأشياء التي تخص الطفل .. وفجأة تسلل إلى عقلها شعوربالأنانية، فقررت تأجيل سعادة شراء تلك الأغراض الصغيرة الجميلة لتتشارك بها مع زوجها الذي ينتظِر ذلك الاحساس منذ زمن..
ولكنها لم تستطع أن تنحي ناظريها بعيدا عن تلك الأرفف الخشبية المرصوص عليها بشكل مرح بعض الأحذية الصغيرة جدا والتي تتأرجح ألوانها بين درجات الأزرق و درجات اللون الوردي.. كما تتأرجح مقاساتها بين الخمسة وال "zero
"..
انتقت أصغرهم وأزهاهم،واختارت اللون الوردي قناعة منها أن ما تحمله بين أحشائها سوف تكون صبية.. أو ربما كانت تتمنى ذلك...
خرجت من محل الأطفال حاملة معها حبها وابتسامتها..
وحذاء وردي اللون مقاسه "zero
"..
اتجهت في خطوات شبه راقصة إلى محل الزهور.. رتبت بنفسها باقة كبيرة من زهور البنفسج تتخللها بعض قرنفلات بيضاء لم تتفتح بعد..
ثم اتجهت إلى أفخر محلات بيع الحلوى لتنتقي أكبر تورتة بطعم الشوكولاتة بالإضافة إلى الكثير من البالونات الملونة والشموع المعطرة..
انتقت كل شيء بعناية شديدة لتكون حفلتها اليوم في روعة وخصوصية المناسبة..
في لحظة خروجها من ذلك الباب الزجاجي ذو الأجراس المعلقة تعثرت بصديقتها وجارتها "حبيبة".. تلك الشابة الجميلة التي تحولت إلى أرملة في سن صغيرة بعد وفاة زوجها في العراق إثر إحدى الهجمات الأمريكية "المحددة الهدف"..
- "حبيبة".. إيه الصدفة الحلوة دي.. جيا تشتري حاجة!؟؟
في توتر بدا جليا على وجه "حبيبة":
- ازيك يا سلمى،أنااا.. أص أصل النهاردة عيد ميلادي و...
- بجد!! كل سنة وإنتِ طيبة يا حبيبتي، طيب كدة متعزمنيش يا وحشة!
- هااا.. معلش أصللل..
- عموما كدة كدة مكنتش هقدر آجي
- الحمد لله.. قصدي قصدي ليه بس؟..
صحيح انتِ جيا هنا ليه؟.. وايه اللي في ايدك ده؟؟
لم تجب سلمى.. ليس خبثا منها أو خوفا من الحسد.. ولكن لأن زوجها هو أول من يجب أن يعلم بالخبر..
************
على مائدتها الصغيرة جهزت عشاءً فاخرا.. إلى جواره وضعت زهورها البنفسجية.. و تورتة الشوكولاتة..
أطفأت كل الأنوار وأضاءت كل الشموع ووضعت في المنتصف طبق "سرفيس" دائري كبير مغطى بغطاء معدني براق.. وتحت الغطاء وضعت بحب حذاء صغير وردي اللون مقاسه "zero
"..
ارتدت أجمل فساتينها وعقصت شعرها بفراشة كبيرة لامعة.. ثم عطرت نفسها ودنياها بعطر الياسمين الذي يحبه..
جلست على أريكتها الدافئة تنتظر في لهفة تلك النظرة السعيدة التي سوف تراها في عينيه فور سماعه الخبر..
في ذلك الوقت تسللت إلى أذنيها وقع موسيقى أسبانية راقصة تألفها جيدا.. تلك الموسيقى التي أحبتها يوما تأثرا بولع زوجها بها،، كان وقعها يزداد علوا كلما اقتربت من النافذة..
أزاحت ستائرها ببطئ لترى جارتها الأرملة الجميلة وهي ترتدي فستانا أسود منفوش قليلا.. أكمامه طويلة وظهره شبه مكشوف..
كانت ترقص على تلك الأنغام الأسبانية بجموح غريب وعدم اتزان واضح..
شعرها منثوربشكل يكاد يكسو الفضاء وقدماها حافيتين تماما.. تضرب الأرض بكعبيها في عنف وبدائية ثم ترفعهما بشيئ من الرقة تمتد لأطراف أصابعها..
تعجبت سلمى من تلك الطقوس الغريبة في الاحتفال بعيد الميلاد.. ضحكت.. ثم ساورها شعور بالخجل من نفسها ومن تلك المحاولة السيئة لاقتحام خصوصيات الغير..
بدأت في اسدال الستائر ببطئ كما فتحتها.. لكنها توقفت فجأة حين لاحظت اقتراب لظل تألفه جيدا.. لم تستطع كبح جماح فضولها وظلت ترقب من بعيد..
لمحت ظهرا عريضا لرجل يقترب من "حبيبة"..يقترب منها جدا.. يحتضنها من الخلف.. ثم يُخرج من جيبه عقدا لؤلؤليا تألفه أيضا.. يطوق به رقبتها ويقبلها..
يُشاركها الرقصة فيستدير ببطئ ذابح لتتسلل ملامحه رويدًا رويدًا عبر ستائره وستائرها..
ورأته..
كان هو.. كان زوجها وحبيبها ووالد طفلتها المنتظرة..
في لحظة..
شعرت أن العالم خلا من أي شيئ إلا من سكين ذو سن حاد..
غرسه أحدهم في أعمق أعماق قلبها كي ينزف طول العمر.. فتفترش دماؤه حلبة رقص كبيرة..
تصلح جيدا لحمل هراءات اسبانية..
اقتحمها شعور بالمرارة وتذكرت في لحظة كل الماضي.. فلم تستوعب الحاضر..
ولم ترى أدنى بصيص للمستقبل..
تَدمع.. تختنق.. ثم تبكي..
ثم تبكي كثيرا..
تتجه بلا أدنى اتزان إلى مائدتها الصغيرة..تحطم كل الصحون وتدفع بكل الورود والشموع إلى الأرض،، ثم تتجه في هلع إلى الباب..
مخلفة وراءها جدران تَبكيها.. ومظاهر احتفال أبى أن يبدأ..
وحذاء وحيد.. وردي اللون..
مقاسه "zero