- بل صدّقي يا حبيبتي , و حتى تصدقي أكثر , أنظري إليْ لم أنا هنا و لست بالشركة ؟؟ .
- صحيح حبيبي .... لم ُعدت ؟ لِمَ لمْ تذهب الى عملك ؟ لِمَ ....
هنا قاطعها منير :
- هذا هو طبعك لا يتغير , ست و ستون سؤال في سؤال واحد ؛ ألا تتقطّع أنفاسك ؟ علميني هذه المهارة المحتكرة على النساء ....
فتقاطعه سناء بدورها :
- منير ... لا تغيّر مجرى الحديث , فقط أجب على تساؤلاتي .
- حسنا حسنا محبوبتي. الشركة إعتبرت اليوم يوم أجازة رسمية , و صرفوا لنا راتب شهر كامل هدية لكل الموظفين.
فتقاطعه سناء بفرحة غامرة :
- ماشاء الله , راتب شهر كامل !! بارك الله فيهم؛ جزاهم الله الجنة بإذن الله.
ثم إرتمت سناء في حضن محبوبها , و حالها بين الضحك و البكاء، و تردد : غير مصدقة .. غير مصدقة .
- بل صدّقي حبيبتي؛ أخرجي الى الشارع لتريْ بنفسك الاحتفالات , الناس كلها خرجت للشوارع بين صغير و كبير؛ نساء و رجال على حد سواء , كلهم خرجوا عن رمّة أبيهم ليحتفلوا بـ ...
ثم و فجأة ابتعدت عن زوجها قليلاً، و قالت :
- و ما هي أخبار المجاهدين؟ كيف يمكن لنا أن نطمئن عليهم؟ أخي أحمد و أخي علي؛ و أبناء إخوتك محمد و حسن و حسين , ماذا عن نبيل و علي و إسماعيل، ماذا عنهم؟ من سيطمئننا عليهم؟ كيف لنا أن نعرف أخبارهم؟ كيف .. كيف؟
فينظر إليها منير، و على شفاهه ابتسامة فيها مكر و خبث :
- ألم أقل لك حبيبتي إنه فن و احتكرتنه أنتن يا معشر النساء ...
- منير .. أنا أتكلم بجديّة , أرجوك أترك الضحك عنك و لو لبرهة ..
- حسناً حسناً..
هنا أخذ منير زوجته في حضنه , و أخذ يداعب شعرها بأنامله و هو يحدثها بلطف؛ و بيده الأخرى يطبطب على ظهرها :
- حبيبتي، ألم تودّعوا شبابكم على أنهم سيسبقونكم للجنان؟ ألم تبلّغوهم سلامكم لنبيكم و الشهداء و الصالحين ؟
فتقرقرت الدموع في عيني سناء , و بدأت تتساقط كقطرات مطرٍ بليلةِ شتاءٍ من شهر نيسان , فقالت بألم :
- ماتوا، جميعهم ماتوا ؟؟
- لا تقولي ماتوا؛ بل قولي استشهدوا : " بسم الله الرحمن الرحيم . ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياءٌ عند ربهم يرزقون " صدق الله العظيم . أذكري الله يا امرأة , أنا لا أعلم عنهم شيئا و لكن أذكّرك، إن عادوا فحمداً لله على سلامتهم , و إن لم يعودوا فهم في الجنان بإذن الله , و هنيئا لهم .
فيبعد منير زوجته عنه برفق .. وينظر بعمق الى عينيها , فيقول لها مبتسما :
- ألم تتأسفي لكون ابنك صغيرا .. وأنت من تمنيت طوال الثلاثة عشر عاما الفائتة أن تكوني أم الشهيد ؟ .. واليوم تحزنين وتبكين إخوتك وأبناء عمومتك ؟ .. لا حبيبتي .. أذكري الله .. واحتسبي ذلك عند ربك وتوكلي عليه .
هنا يقطع كلام منير صوت الهاتف , فتسرع سناء الى السماعة وترفعها وكأنها تنتظر خبر ..
- ألو .... وعليكم السلام..... أهلا أمي .... الحمد لله جميعنا بخير .... ومبارك عليكم أنتم أيضا .... حسنا حسنا سأبلغه ..... ولكن متى ؟ وبأي ساعة ؟ ..... من الآن ..... حسنا حسنا .... سنحرص على الحضور ولكن تعلمون أمامنا طريق ثلاث ساعات ..... حسنا ..... مع السلامة .
فالتفتت سناء الى زوجها وقالت له :
- أبي يدعوك للاحتفال بهذا النصر في المزرعة , وهم هناك الآن .
- إذا أسرعي حبيبتي وأعد الحقائب حتى لا نتأخر عليهم .
- أعطني نصف ساعة , ويجهز كل شيء .
- نصف ساعة ..!! ماذا ستفعلين ..؟؟
- حبيبي أرجوك لا تعترض .. إذهب واغسل سيارتك .. وستجدني جاهزة بإذن الله .
ذهب منير ليغسل سيارته .. بينما أسرعت سناء الى المطبخ وبدأت في اعداد حلوى جوز الهند , و أدخلت الصينية في الفرن .. و أخذت كريمة التزيين ووضعتها في كيس حتى لا تنسى أن تزيّن بها الكعك في المزرعة . وبسرعة خرجت من المطبخ واتجهت لغرف أطفالها , سحبت الحقيبة من الخزانة ووضعت فيها ملابس لأطفالها الأربعة , ونادت على ابنتها الكبرى جمانة ( ذات التسعة أعوام ) :
- جمانة ... بسرعة يا حبيبتي تعالي وساعديني في تجهيز أخويك الصغيرين .. بسرعة يا ابنتي لا تتأخري , الآن يجب أن ننتقل الى الأحساء .
- صحيح أمي ..
- نعم صحيح , ولكن أسرعي فلا وقت لدينا .
ماهي الا أربعون دقيقة , وركب الجميع سيارتهم الباث فيندر وخرجوا من منزلهم من الرياض قاصدين الأحساء وما إن خرجوا من منزلهم حتى وجدوا الشوارع وقد إمتلأت , من الصغار والكبار ... وببطء تمكنوا من الخروج من حيّهم .. الكل يسلم على الآخر .. ويتبادلون التهاني والتبريكات .
وآخيرا خرجوا للشارع الرئيسي .. كل السيارات تزمّر بمزاميرها .. والنوافذ مفتوحة .. وأصوات الأغاني و الأهازيج تعم المكان .. وزحمة السيارات كبيرة على الشوارع داخل المدينة وخارجها .. وساعدتهم سيارتهم ذات الدفع الرباعي في تجاوز الزحمة .. حيث نزلوا بها على الرمل .. وتجاوزوا السيارات . وبعد مشوار خمس ساعات وصلوا الى مدخل المزرعة ... وما إن دخلوا حتى وجدوا المكان وقد إمتلأ بالأهل والأصحاب .. البالونات معلقة على الأشجار وكأنها ثمار .. الإضاءة موزعة في كل مكان .. الدنيا نهار .. ولكنهم أشعلوا المكان بالإضاءات الملونة اللماعة .. والأعلام الخضراء مرفوعة في كل مكان .. وأمسك الأطفال بأعلام صغيرة في أيديهم , طاولات أعدت ووضعت عليها ألوان الحلويات البيتية والجاهزة .. وأطباق من المعجنات والعصائر .. والمشروبات الغازية .
أوقف منير سيارته , وقبل أن يترجل منها هو وعائلته جاءتهم أصوات أهلهم التي تقشعر لها الأبدان : " الله أكبر, الله أكبر , عاشت فلسطين , الموت لإسرائيل .. الله أكبر .. حررنا فلسطين .. الله أكبر "
- الله أكبر .. الله أكبر
- حبيبتي سنائي .. سناء القلب .. الله أكبر .. مؤذنتي .. إجلسي فقد حان وقت الصلاة .. أشكر لك حبيبتي تأذينك في نومك .. وإجلاسي لأداء الصلاة ... سناء سناء .. إستيقظي يكفي أحلام ..!!
فاستفاقت سناء من نومها :
- حلم .. لا لاتقل أنه كان حلم .. لقد كان حلمي لسنوات .. والآن ظننت أنه تحقق .. لا .. لا أرجوك لا تقل أنه مجرد حلم .. والإحتفالات ...
- إحتفالات .. الليلة الاحتفالات .. قومي لأداء فرضك قبل طلوع الشمس .. و لاحقة أنت بالإحتفالات .
- ولكن حبيبي ..الاحتفال ...
- احتفال .. احتفال .. لقد استبقت الأحداث .. الليلة زواج أخيك وابنك وحبيب قلبك أحمد .. واحتفلي به براحتك .. لا تخافي الاحتفال لن يفوتك .. لم يبدأ الاحتفال بعد ..
- لا حبيبي .. مستحيل أن يكون حلم .. النصر والمزرعة و.. الاحتفال ....!
[center]تمت بحمد الله[/center]