بعد الصمت.. في القطار
مرسل: 19 مايو 2009, 10:20 pm
(التطويق) لمن لم يدركه حظه ليعرف معنى الكلمة حتى الآن.. هو أنك ولسوء الحظ تركب القطار دون أن يكون لك كرسي فيه..
هو أن تتحمل ساعات في قلب الدخان.. والضجة.. وزحمة الأكواع... دون مفر..
وغالبا ما يكون ذلك في عربة رقم(4) في القطار.. أو كما يدعونها (الكافيتيريا)..
في ركن شبه فارغ في تلك العربة.. أبرع في حجز مكان لتلك الحقيبة المسكينة التي ألفت الأركان..
أجلس عليها القرفصاء.. وأفتح حقيبة يدي..
أخرج كتابا ذو اسم غامض.. وغلاف دافئ.. كنت قد التقطته عشوائيا من مكتبتي الممتلئة بكتب المعرض هذه السنة..
(بعد الصمت)..مجموعة قصصية – لمحمود بدوي-
إنها المرة الأولى التي أصادف كاتبا يهدي وليده الأول لنفسه..
تعجبت.. لكني تفهمته...
بين الصفحات وجدت أنفسا يملؤها التشاؤم.. والهامشية.. والفقر و الإحساس بالفشل..
وأنفسا قليلة مازالت تتمسك بخيوط الأمل..
وأنفسا أخرى مازالت تتلعثم بين هذا.. وذاك..
بين الصفحات رأيت شخصا يعيش ليدون الأفكار في أوراق صغيرة.. يخبئها عن العالم في شوال مهترئ.. أفكارا دونها قبل أن يطلقها سواه للنور.. فيحرقها.. ويموت...
بين الصفحات شخصا يقضي يوما كاملا في الحمام.. لا يعلم إن كان بفعل الإسهال وانقطاع المياه.. أم بأمر من القدر..
ليخرج بعد ذلك اليوم مدركا حقائقا جديدة للأشياء.. ولنفسه.. ولمن حوله..
بين القصص أيضا عذراء.. جميلة.. انتظرت حبيبها الباسل سنوات طويلة قضاها في الحرب.. موقنة أنه سيعود.. وبعكس كل النهايات المماثلة..
عاد..
وبيده شبكة أضناها الانتظار.. وعلبة علكة...
وبين القصص مرثية يوم تافه.. استطاع الكاتب أن ينفث فيها من روحه اليائسة في ذلك الوقت.. وأن يسلط الضوء بخفوت محبب إلى مسلسل يومي يعيشه الكثير من الشباب الذي لم يستطع يوما أن يفعل ما يريد..
وسواء كانت الأسباب تكمن في الجو المحيط.. أو في تلك الروح اليائسة.. أو في الأقدار..
فقد اختار أن ينام.. دون أن يحاول احداث ثقب في جدار الحياة..
ينام كي يستيقظ.. ليعيش مرثية يوم تافه.. آخر..
بين صفحات الكتاب.. قصصا عديدة انتهت بالموت.. وقليلة انتهت بالحياة..
المجموعة برمتها لا تدعو للتشاؤم رغم تلك اللمحة التشاؤمية الواضحة.. فإذا أمعنت النظر بين السطور.. سوف تجد دعوة واضحة من الكاتب للحاق بما تبقى من العمر.. قبل أن يضيع الوقت وأنت جالس على نفس الكرسي الهزاز.. ترقب نفس الحركة الرتيبة للبندول..
ورغم أن معظم بنات أفكاره جاءت عاقة للحياة.. إلا أن بين العاقين دوما ما تجد من يبر بالنور وبالأمل..
بين كل الأوراق.. تحول ذلك البلياتشو الحزين إلى ذلك الماريونيست البارع..
(محمود بدوي) استطاع أن يتلاعب بخيوط الأحرف.. ويحركها كما يشاء..
وكالمحترفين..
أطاعته عرائسه بحب وشغف..
واسترسال..
********
وأفقت أنا.. بعد ساعتين من صمتي..
لأجد الدخان كما هو يملأ المكان.. والجلبة كما هي ليس لها أصداء..
والناس هم نفس الناس..
منهم من يشبه تلك القصص.. ومنهم من سيشبه قصصا أخرى..
أفقت بعد ساعتين من الدهشة.. والمتعة..
وبعد رؤية جديدة للذنيا..
وبعد الصمت....