أهم أساليب السرد الأدبى ( مبادئ فن الكتابة الأدبية 2 )
مرسل: 18 يوليو 2009, 11:25 am
............
ملحوظة هامة: هذا المقال غير منقول..و هو بالكامل مكتوبا بأسلوبى و أفكارى الشخصية طبقا لقراءاتى فى كتب النقد الأدبى العربية و الإنجليزية و معلوماتى الشخصية, وعلى هذا..للزوار: يمنع نقل هذا المقال تماماً بدعوى الفائدة أو غيرها, فقد كتبته للأكاديمية و زملائى بها فقط و لن أنشره فى أى مكان آخر, يمكنكم وضع رابط الموضوع فى أى مكان آخر للفائدة دون نقل نص المقال نفسه, شكراً.
وليد توفيق
............
أخوتى و أخواتى فى الأكاديمية
بالطبع تعرفون كم أفتقد الأكاديمية حين تمنعنى الظروف عنها..لكن مع أول بادرة فراغ من تلك الظروف أسارع بالدخول و لو لبعض الوقت لأستعيد ذلك الإحساس الأخوى الصادق الذى أحس به هنا فى الأكاديمية..و اليوم أردت أن أستكمل تلك السلسلة التى بدأتها و توقفت شهورا طويلة للأسف..و لكن الأن لنا عودة..و قد استخدمت نظام المسودات فى الأكاديمية على مدى الأيام الماضية لكتابة هذا المقال على أجزاء كلما وجدت الوقت لأدخل الأكاديمية و أكتب و الحمد لله أخيرا انهيت كتابته...أترككم مع المقال..مع حبى للجميع فى الأكاديمية
............
الأساليب السردية:
فى بحور الأدب والكلمات..كثيرا ما نلتقى بأعمال منها ما نقترب من شخوصها..ونغوص فى أعماقهم...بينما أعمالاً أخرى قد تكون أفضل من حيث اللغة, لكن لم يستطع كاتبها تقريب القارئ من شخوصه, ربما لعدم تخيله للشخصيات جيدا و بالتالى لم ينسجها جيدا داخل العمل..أو ربما لإفتقاد الإحساس داخل العمل أو العاطفة كغيرها من عناصر الأدب الأربعة ( العاطفة, المعنى, الأسلوب, الخيال ) القادم ذكرها فى مقال قادم بإذن الله.
إلا أن السبب الأكثر شيوعا لعدم تعبير الكاتب بشكل كافى عن مشاعر و أفكار شخوصه و تقريبها من القارئ, هو عدم إختيار الأسلوب السردى المناسب الذى يكتب به العمل, فأحد أساليب السرد قد يقرب الشخوص تماماً من القارئ, بل ويجعلها أقرب إليه من نفسه و يجسدهم تجسيدا واقعيا فى عقله, بينما أسلوب سردى أخر قد يبتعد بالشخوص تماماً عن ذهن القارئ, ويجعل المهمة أصعب على العمل لإيصال معناه المطلوب مع فقد العلاقة بين القارئ و شخوص العمل.
أيضا, فإننا قد يعجبنا عمل ما فى مجال نفضله كثيرا, بينما عمل أخر فى نفس المجال قد لا يروق لنا, وذلك راجع لأسلوب السرد المستخدم و مدى مناسبته لفكرة و جو العمل ككل.
و لعل الفائدة الأكبر التى أرجوها من عرض مصطلحات و أساليب السرد الأدبى و تعريفها هو تسهيل مهمة النقد الموضوعى داخل الأكاديمية, فقد نقرأ عملاً و نريد أن نصحح شيئاً ما داخله لكننا لا نستطيع معرفة المصطلحات النقدية المناسبة للتعبير عن هذا الرأى بشكل صحيح ومفيد لكاتب العمل, الذى يهمه أيضا معرفة هذه المصطلحات ليستفيد من النقد الموجه للعمل, و بالتالى فتلك المصطلحات هامة من الناحيتين: الأدبية و النقدية, وخصوصا فى مجالى ( القصة القصيرة , الرواية )
دعونا نمضى الأن فى ذكر أهم الأساليب السردية..و كل أسلوب يعرف عموما بــ ( الراوى ) أو ما يعرف للزملاء دارسى الأدب الإنجليزى بــ ( Narrator ), و أستأذنكم فى ذكر المصطلحات الإنجليزية المقابلة للمصطلحات العربية كلما استطعت كفائدة للزملاء دارسى الأدب الإنجليزى أو القراء فى كتب النقد الأدبى الإنجليزية, و ليس تفاخراً أو إكمالاً للغة العربية باللغة الإنجليزية أو ماشابه كما يفسره البعض عادة:
الراوى العليم: ( All-Knowing Narrator ) ( Omniscient Narrator )
[ ويعرف أيضا بعدة مصطلحات أخرى: ( الراوى الخارجى), ( الراوى الموضوعى Objective Narrator وهو المصطلح السائد أكثر فى نقد الأدب الإنجليزى ), ( المشاهد الثالث ) الأقرب من المصطلح الهندسى ( المسقط الثالث Third person view ) ]
مثال: ( من قصة: رسالة لن تقرأ, للزميلة العزيزة: الزهراء )
لم يكن لها الحق في أن تنطق بكلمة واحدة و لو حتى لإبداء رأي لن يُؤخذ به ، كان صعب المزاج ، قاسي القلب ، لا يعترف بالمشاعر الجميلة و لا وجود للكلمة الطيبة في قاموسه ، لغته الضرب ، مناقشاته العنف ....و حتى عندما جاء الأولاد لم يجعل ذلك قلبه يلين و لم يحسن من علاقتهما بل ظلت باردة و يكسوها الجفاء ، كانت تشبه كثيرا علاقة العبد بسيده أما هي فقد زادها مجيئ الأولاد ضعفا و استسلاما ....
بعد المثال الذى قصدت أن يكون من أعمال فى الأكاديمية لتكون قريبة أكثر من الجميع, دعونا الأن نتحدث عن معنى الرواى العليم...
أحب أن أشبه الراوى العليم دائما بمحرك العرائس..حيث يحرك كل الشخصيات بخيوطه..دون أن يظهر هو فى الصورة...
كذلك الراوى العليم..فهو جهة محايدة و غير ظاهرة فى العمل رغم سيطرتها على سرد أحداثه, ترى الشخصيات من منظور خارجى و موضوعى يصف الأحداث بدقة و أمانة, يصف الأحاسيس والمشاعر الداخلية..يصف أبعاد الشخصيات و صفاتهم الشكلية والنفسية..مع ذلك, و مع سيطرة الراوى العليم و إمساكه بخيوط العمل..إلا أنه ليس ( ديكتاتورياً ) أبداً...فمن أفضل مميزات الراوى العليم أيضا ترك الحكم على الشخصيات للقارئ, بل هو أكثر الأساليب الأدبية تركاً للقارئ لحرية تقييم الشخصيات, فهو يسرد بحيادية صفات الشخصيات و تصرفاتها, و مسار الأحداث و تشابك المشاعر, لكنه لا يحلل الشخصية بشكل مباشر, ولا يوضح ضمنا ماذا يريد أن يبعث من معان عبر العمل ( و إلا ضعفت قيمة العمل بسبب المباشرة ) , بل يترك للقارئ حرية الحكم على الشخصيات و حرية الشعور نحوها.
وقد ثار الأدباء و الناقدين المعاصرين على أسلوب ( الراوى العليم ) ثورة غير مبررة, مفادها, ( كيف يكون الراوى العليم عالماً بكل شئ؟ ) و أن ذلك نوع مصطنع من الأدب يخدع القارئ, و الحقيقة أن هذا النقد غير صحيح أبداً, فالأديب هو من يصنع شخصياته, ويعرفهم, وهو أيضا من يقدمهم للقارئ و يحدد كم الصفات و المعلموات عن تلك لشخصية التى يود أن يعرف بها فى كل مرحلة من العمل..أيضا فأى أسلوب سردى إذا إستخدمه الأديب دون حرفية و دون مناسبة للعمل سيكون مفتعلاً و مصطنعاً و يضعف العمل, أن أن القضية قضية الكاتب و ليس الأسلوب السردى.
و يعد الراوى العليم من أهم الأساليب السردية و أقدمها, وأكثرها شيوعا فى تاريخ الأدب خاصة فى مجال الرواية, و يظل هو الأساس رغم ذلك الجدل المعاصر حوله, و رغم كثرة إستخدام الأساليب الأخرى و إستحداث أساليب جديدة, و ذلك لمناسبته لأغلب المجالات الأدبية و أهدافها مع الأخذ فى الإعتبار كما وضحنا مهارة الكاتب فى توظيف الأسلوب السردى, فذلك ما يفرق بين عمل و عمل, وكاتب و آخر.
الراوى الداخلى: ( Interior Narrator )
[ و يعرف أيضا بــ ( الراوى النفسى Self Narrator ), ( الراوى الشخصى First Person View ) , ( Subjective Narrator ) ]
مثال: ( من قصة: المطارد للزميلة العزيزة: هبة الله محمد )
أرعبني ذلك الخيال البعيد ، لم استطع أن أتبين ماهيته ،غير أن حركته الدءوبة و ظلال أطرافه أثارت في نفسي الفزع وشلتني عن التفكير.. لمَ يحدق بي هكذا؟..
يعد الراوى الداخلى ثانى أكثر الأساليب السردية أهمية, و الشائع فى الإستخدام خاصة فى كتابة المذكرات الشخصية أو الخواطر, إلا أن إستخدامه أيضا أصبح شائعا فى الأدب المعاصر خاصة فى مجال الأعمال البوليسية أو أعمال الرعب التى تقتضى التشويق و الإثارة, فالراوى الداخلى بشكل أو بأخر يقرب القارئ جدا من الشخصية, إلى درجة قد تصل إلى تخيل القارئ نفسه محل الشخصية طبقا لمهارة الكاتب, إلا أن إستخدام هذا الأسلوب السردى فى بعض المجالات الأدبية بغير حرفية أدبية قد يفسد العمل و يجعله مملاً للقارئ, مثل الرواية, فإذا إستخدم الراوى الداخلى فيها دون داع أدبى و حرفية أدبية عالية يؤدى إلى إعطاء الرواية طابع الحكاية الدارج, أو ما يشبه ( حدث بالفعل ), وبالتالى يخرج القارئ من جو العمل الأدبى تماماً, أيضا فإن من أكثر القيود التى يضعها هذا الأسلوب على العمل الروائى أنه يحصر وصف مشاعر و تعبيرات شخوص العمل فى شخصية واحدة, و هو ماينافى العمل الروائى متعدد الشخصيات.
ولهذا فقد اخترت مثال قصة ( المطارد ) تحديدا لأن الزميلة هبة الله محمد وضعتها فى قالب بوليسى ومشوق مستخدمة أسلوب الراوى الداخلى بمهارة طوال القصة, حتى تجذبك أحداث القصة و تتخيل نفسك البطل إلى أخر سطر بها دون توقف, فإستخدام الراوى الداخلى فى هذا العمل كان مناسبا تماماً لجو العمل و موظفاً لإحداث ذلك التشويق بمهارة حتى السطر الأخير من القصة.
الراوى المخاطب: ( addressee Narrator )
[ و يعرف أيضا بــ ( الراوى القريب Close Narrator ) , ( ا Second Person View ) ]
يعد أسلوب الراوى المخاطب أسلوبا قديما فى الشعر..و فى فن ( الرسائل ) المشهور لدى العرب قديما..إلا أن هذا الأسلوب فرض نفسه حديثا على ساحة القصة القصيرة, و على عكس الراوى الداخلى, فهنا الراوى يتحدث معك.. مع قارئ العمل.. و يحاوره.. ينسب إليه كل مشاعر و أحداث العمل و كأنه هو فاعلها...و هذا الأسلوب بالطبع كباقى الأساليب سلاح ذو حدين للأديب, ففى أحيان قد يفيد هذا الأسلوب فى إشعار القارئ بأنه هو بطل العمل إذا كانت مشاعر العمل واقعية وقريبة منه ( و لهذا يسمى بالراوى القريب ), بينما فى أحياناً أخرى قد ينفر القارئ من العمل خاصة إذا كان البطل شخصية غير محببة إلى نفس القارئ.
دعونا نمضى إلى أمثلة لنوضح هذا الأسلوب بشكل أفضل.
مثال إرتجالى فى مجال الشعر:
و بتنجرح..تدمى..و تصرخ
بس صراخك مش مسموع
و بتبتسم..تملى الفرحة عينيك
و قلبك لسه خنقاه الدموع
فأسلوب الراوى المخاطب يحادث قارئه.. و يجذبه للعمل.. و هو شئ مطلوب فى الشعر... و قد أصبح هذا النوع السردى موجود مؤخرا فى القصة القصيرة ليعطيها بعداً جديداً, مع أن الأدباء و النقاد دائما ما أوضحوا و أصروا أن أسلوب المخاطب لا يليق بالقصة القصيرة, وهو ما يثبت أن التحديث فى الأساليب السردية و الدخول بها إلى أبواب أدبية غير مطروقة من قبل ليس بالأمر العسير وليس حكرا لقوانين ثابتة كما سأوضح فى نهاية المقال إن شاء الله.
مثال إرتجالى فى مجال القصة القصيرة:
تصحو من نومك الطويل على صوت ذلك الرنين...
تحدق فى ذلك اللون الأبيض الذى يحيط بك من كل جانب..
لا تعرف كيف وصلت إلى هنا..أو ماذا ينتظرك...
تحاول أن تتذكر البداية..التى أقحمتك فى كل هذا...
فالراوى هنا كما هو واضح, زاوية أخرى للراوى العليم, و عكس الأسلوب الداخلى, أو كأنه خطاباً ما مع شخص وهمى..ولا أتحدث هنا عن خطاب إنسان لشئ ما كبيت أو شئ أو لقلبه كما يحدث فى الشعر, فهذا يقع ضمن أسلوب الراوى الداخلى لأن الشخص يتحدث مع شئ آخر و يخاطبه ليصف مشاعر خاصة به:
تمضى فى جراحك ياقلبى..تحاول عبثا أن تخفى تلك الآلام عن أعينهم..
فالراوى هنا داخلى..و ليس مخاطب..ومن هذه النقطة أود أن أوضح علامات من الممكن أن نفرق بها مبدأيا بين الأساليب السردية المختلفة ( وإن كان الإعتماد الأساسى على الحس الأدبى و القرائن داخل العمل ):
إذا إستخدم ضمير الغائب أو أسماء الإشارة فى النص...إذن الأسلوب المستخدم: الراوى العليم.
إذا إستخدم ضمير الملكية أو ياء المتكلم...فهذا الأسلوب هو: الراوى الداخلى ( النفسى ).
إذا استخدمت لفظة ( أنت ) أو ما يماثلها..أو ( كاف المخاطبة ) وما يماثلها...فالأسلوب المستخدم هو: الراوى المخاطب.
مع ذلك, فإن الكلمة الأخيرة التى أريد أن أقولها بهذا الصدد..الأساليب السردية المختلفة ليست قواعد لا يمكن تجاوزها..و ليست أيضا قيوداً تقيد الأديب عند الكتابة...فكثيرا من يكتب بموهبته دون معرفة الأساليب السردية, و لهذا يجب أن أوضح أخيراً كيفية الإستفادة من معرفة الأساليب السردية إستفادة كبيرة:
1 - عند وجود فكرة عمل لديك, تجد فى ذهنك صورة تلقائية عن الراوى المناسب ولو دون معرفة به..لكن بعد معرفته, فكر كيف سيكون العمل لو حولت أسلوب الراوى العليم إلى راوى داخلى أو إلى راوى مخاطب مثلا؟ هل سيناسب هذا العمل؟ هل سيفيدة و يقربه للقارئ أكثر؟ و قم بتجربة جملة من العمل فى خيالك على الأساليب المختلفة, و أنظر لوقع الكلمات على ذهنك ومشاعرك بكل أسلوب منفرد, وحينها يمكنك إختيار الأسلوب المناسب لجو العمل بدقة.
2 - فى حالات كثيرة يمكنك المزج بين عدة أساليب سردية فى عمل واحد, لكن كما وضحنا طوال المقال, هناك شعرة واهية بين مهارة التعدد فى الأساليب الأدبية و بين تشتيت القارئ و إخراجه من جو العمل تماماً.
3 - تغيير الأسلوب السردى يغير تماماً شكل العمل, و يشعر قارئ العمل بالتغيير بين كل عمل و آخر تكتبه.. فإذا شعرت بالرغبة فى تغيير و تنويع طريقة كتابتك حاول إستخدام أساليب سردية جديدة عليك...لتجد أن أعمالك اكتسبت شكلا جديدا تماماًَ.
كفتح مساحة للنقاش فى نهاية المقال, أحب أن أعرف أكثر أسلوب سردى تستخدمه عادة فى كتاباتك...؟ وما أكثر أسلوب سردى تعتقد أن كتاباتك فيه تبدو أجمل و أعمق فى عينيك كقارئ...؟
آخر المقال... أتمنى حقا أن أكون استطعت الإفادة بهذا المقال..و أتمنى لزملائى الأعزاء فى الأكاديمية كل التميز..
ملحوظة هامة: هذا المقال غير منقول..و هو بالكامل مكتوبا بأسلوبى و أفكارى الشخصية طبقا لقراءاتى فى كتب النقد الأدبى العربية و الإنجليزية و معلوماتى الشخصية, وعلى هذا..للزوار: يمنع نقل هذا المقال تماماً بدعوى الفائدة أو غيرها, فقد كتبته للأكاديمية و زملائى بها فقط و لن أنشره فى أى مكان آخر, يمكنكم وضع رابط الموضوع فى أى مكان آخر للفائدة دون نقل نص المقال نفسه, شكراً.
وليد توفيق
............
أخوتى و أخواتى فى الأكاديمية
بالطبع تعرفون كم أفتقد الأكاديمية حين تمنعنى الظروف عنها..لكن مع أول بادرة فراغ من تلك الظروف أسارع بالدخول و لو لبعض الوقت لأستعيد ذلك الإحساس الأخوى الصادق الذى أحس به هنا فى الأكاديمية..و اليوم أردت أن أستكمل تلك السلسلة التى بدأتها و توقفت شهورا طويلة للأسف..و لكن الأن لنا عودة..و قد استخدمت نظام المسودات فى الأكاديمية على مدى الأيام الماضية لكتابة هذا المقال على أجزاء كلما وجدت الوقت لأدخل الأكاديمية و أكتب و الحمد لله أخيرا انهيت كتابته...أترككم مع المقال..مع حبى للجميع فى الأكاديمية
............
الأساليب السردية:
فى بحور الأدب والكلمات..كثيرا ما نلتقى بأعمال منها ما نقترب من شخوصها..ونغوص فى أعماقهم...بينما أعمالاً أخرى قد تكون أفضل من حيث اللغة, لكن لم يستطع كاتبها تقريب القارئ من شخوصه, ربما لعدم تخيله للشخصيات جيدا و بالتالى لم ينسجها جيدا داخل العمل..أو ربما لإفتقاد الإحساس داخل العمل أو العاطفة كغيرها من عناصر الأدب الأربعة ( العاطفة, المعنى, الأسلوب, الخيال ) القادم ذكرها فى مقال قادم بإذن الله.
إلا أن السبب الأكثر شيوعا لعدم تعبير الكاتب بشكل كافى عن مشاعر و أفكار شخوصه و تقريبها من القارئ, هو عدم إختيار الأسلوب السردى المناسب الذى يكتب به العمل, فأحد أساليب السرد قد يقرب الشخوص تماماً من القارئ, بل ويجعلها أقرب إليه من نفسه و يجسدهم تجسيدا واقعيا فى عقله, بينما أسلوب سردى أخر قد يبتعد بالشخوص تماماً عن ذهن القارئ, ويجعل المهمة أصعب على العمل لإيصال معناه المطلوب مع فقد العلاقة بين القارئ و شخوص العمل.
أيضا, فإننا قد يعجبنا عمل ما فى مجال نفضله كثيرا, بينما عمل أخر فى نفس المجال قد لا يروق لنا, وذلك راجع لأسلوب السرد المستخدم و مدى مناسبته لفكرة و جو العمل ككل.
و لعل الفائدة الأكبر التى أرجوها من عرض مصطلحات و أساليب السرد الأدبى و تعريفها هو تسهيل مهمة النقد الموضوعى داخل الأكاديمية, فقد نقرأ عملاً و نريد أن نصحح شيئاً ما داخله لكننا لا نستطيع معرفة المصطلحات النقدية المناسبة للتعبير عن هذا الرأى بشكل صحيح ومفيد لكاتب العمل, الذى يهمه أيضا معرفة هذه المصطلحات ليستفيد من النقد الموجه للعمل, و بالتالى فتلك المصطلحات هامة من الناحيتين: الأدبية و النقدية, وخصوصا فى مجالى ( القصة القصيرة , الرواية )
دعونا نمضى الأن فى ذكر أهم الأساليب السردية..و كل أسلوب يعرف عموما بــ ( الراوى ) أو ما يعرف للزملاء دارسى الأدب الإنجليزى بــ ( Narrator ), و أستأذنكم فى ذكر المصطلحات الإنجليزية المقابلة للمصطلحات العربية كلما استطعت كفائدة للزملاء دارسى الأدب الإنجليزى أو القراء فى كتب النقد الأدبى الإنجليزية, و ليس تفاخراً أو إكمالاً للغة العربية باللغة الإنجليزية أو ماشابه كما يفسره البعض عادة:
الراوى العليم: ( All-Knowing Narrator ) ( Omniscient Narrator )
[ ويعرف أيضا بعدة مصطلحات أخرى: ( الراوى الخارجى), ( الراوى الموضوعى Objective Narrator وهو المصطلح السائد أكثر فى نقد الأدب الإنجليزى ), ( المشاهد الثالث ) الأقرب من المصطلح الهندسى ( المسقط الثالث Third person view ) ]
مثال: ( من قصة: رسالة لن تقرأ, للزميلة العزيزة: الزهراء )
لم يكن لها الحق في أن تنطق بكلمة واحدة و لو حتى لإبداء رأي لن يُؤخذ به ، كان صعب المزاج ، قاسي القلب ، لا يعترف بالمشاعر الجميلة و لا وجود للكلمة الطيبة في قاموسه ، لغته الضرب ، مناقشاته العنف ....و حتى عندما جاء الأولاد لم يجعل ذلك قلبه يلين و لم يحسن من علاقتهما بل ظلت باردة و يكسوها الجفاء ، كانت تشبه كثيرا علاقة العبد بسيده أما هي فقد زادها مجيئ الأولاد ضعفا و استسلاما ....
بعد المثال الذى قصدت أن يكون من أعمال فى الأكاديمية لتكون قريبة أكثر من الجميع, دعونا الأن نتحدث عن معنى الرواى العليم...
أحب أن أشبه الراوى العليم دائما بمحرك العرائس..حيث يحرك كل الشخصيات بخيوطه..دون أن يظهر هو فى الصورة...
كذلك الراوى العليم..فهو جهة محايدة و غير ظاهرة فى العمل رغم سيطرتها على سرد أحداثه, ترى الشخصيات من منظور خارجى و موضوعى يصف الأحداث بدقة و أمانة, يصف الأحاسيس والمشاعر الداخلية..يصف أبعاد الشخصيات و صفاتهم الشكلية والنفسية..مع ذلك, و مع سيطرة الراوى العليم و إمساكه بخيوط العمل..إلا أنه ليس ( ديكتاتورياً ) أبداً...فمن أفضل مميزات الراوى العليم أيضا ترك الحكم على الشخصيات للقارئ, بل هو أكثر الأساليب الأدبية تركاً للقارئ لحرية تقييم الشخصيات, فهو يسرد بحيادية صفات الشخصيات و تصرفاتها, و مسار الأحداث و تشابك المشاعر, لكنه لا يحلل الشخصية بشكل مباشر, ولا يوضح ضمنا ماذا يريد أن يبعث من معان عبر العمل ( و إلا ضعفت قيمة العمل بسبب المباشرة ) , بل يترك للقارئ حرية الحكم على الشخصيات و حرية الشعور نحوها.
وقد ثار الأدباء و الناقدين المعاصرين على أسلوب ( الراوى العليم ) ثورة غير مبررة, مفادها, ( كيف يكون الراوى العليم عالماً بكل شئ؟ ) و أن ذلك نوع مصطنع من الأدب يخدع القارئ, و الحقيقة أن هذا النقد غير صحيح أبداً, فالأديب هو من يصنع شخصياته, ويعرفهم, وهو أيضا من يقدمهم للقارئ و يحدد كم الصفات و المعلموات عن تلك لشخصية التى يود أن يعرف بها فى كل مرحلة من العمل..أيضا فأى أسلوب سردى إذا إستخدمه الأديب دون حرفية و دون مناسبة للعمل سيكون مفتعلاً و مصطنعاً و يضعف العمل, أن أن القضية قضية الكاتب و ليس الأسلوب السردى.
و يعد الراوى العليم من أهم الأساليب السردية و أقدمها, وأكثرها شيوعا فى تاريخ الأدب خاصة فى مجال الرواية, و يظل هو الأساس رغم ذلك الجدل المعاصر حوله, و رغم كثرة إستخدام الأساليب الأخرى و إستحداث أساليب جديدة, و ذلك لمناسبته لأغلب المجالات الأدبية و أهدافها مع الأخذ فى الإعتبار كما وضحنا مهارة الكاتب فى توظيف الأسلوب السردى, فذلك ما يفرق بين عمل و عمل, وكاتب و آخر.
الراوى الداخلى: ( Interior Narrator )
[ و يعرف أيضا بــ ( الراوى النفسى Self Narrator ), ( الراوى الشخصى First Person View ) , ( Subjective Narrator ) ]
مثال: ( من قصة: المطارد للزميلة العزيزة: هبة الله محمد )
أرعبني ذلك الخيال البعيد ، لم استطع أن أتبين ماهيته ،غير أن حركته الدءوبة و ظلال أطرافه أثارت في نفسي الفزع وشلتني عن التفكير.. لمَ يحدق بي هكذا؟..
يعد الراوى الداخلى ثانى أكثر الأساليب السردية أهمية, و الشائع فى الإستخدام خاصة فى كتابة المذكرات الشخصية أو الخواطر, إلا أن إستخدامه أيضا أصبح شائعا فى الأدب المعاصر خاصة فى مجال الأعمال البوليسية أو أعمال الرعب التى تقتضى التشويق و الإثارة, فالراوى الداخلى بشكل أو بأخر يقرب القارئ جدا من الشخصية, إلى درجة قد تصل إلى تخيل القارئ نفسه محل الشخصية طبقا لمهارة الكاتب, إلا أن إستخدام هذا الأسلوب السردى فى بعض المجالات الأدبية بغير حرفية أدبية قد يفسد العمل و يجعله مملاً للقارئ, مثل الرواية, فإذا إستخدم الراوى الداخلى فيها دون داع أدبى و حرفية أدبية عالية يؤدى إلى إعطاء الرواية طابع الحكاية الدارج, أو ما يشبه ( حدث بالفعل ), وبالتالى يخرج القارئ من جو العمل الأدبى تماماً, أيضا فإن من أكثر القيود التى يضعها هذا الأسلوب على العمل الروائى أنه يحصر وصف مشاعر و تعبيرات شخوص العمل فى شخصية واحدة, و هو ماينافى العمل الروائى متعدد الشخصيات.
ولهذا فقد اخترت مثال قصة ( المطارد ) تحديدا لأن الزميلة هبة الله محمد وضعتها فى قالب بوليسى ومشوق مستخدمة أسلوب الراوى الداخلى بمهارة طوال القصة, حتى تجذبك أحداث القصة و تتخيل نفسك البطل إلى أخر سطر بها دون توقف, فإستخدام الراوى الداخلى فى هذا العمل كان مناسبا تماماً لجو العمل و موظفاً لإحداث ذلك التشويق بمهارة حتى السطر الأخير من القصة.
الراوى المخاطب: ( addressee Narrator )
[ و يعرف أيضا بــ ( الراوى القريب Close Narrator ) , ( ا Second Person View ) ]
يعد أسلوب الراوى المخاطب أسلوبا قديما فى الشعر..و فى فن ( الرسائل ) المشهور لدى العرب قديما..إلا أن هذا الأسلوب فرض نفسه حديثا على ساحة القصة القصيرة, و على عكس الراوى الداخلى, فهنا الراوى يتحدث معك.. مع قارئ العمل.. و يحاوره.. ينسب إليه كل مشاعر و أحداث العمل و كأنه هو فاعلها...و هذا الأسلوب بالطبع كباقى الأساليب سلاح ذو حدين للأديب, ففى أحيان قد يفيد هذا الأسلوب فى إشعار القارئ بأنه هو بطل العمل إذا كانت مشاعر العمل واقعية وقريبة منه ( و لهذا يسمى بالراوى القريب ), بينما فى أحياناً أخرى قد ينفر القارئ من العمل خاصة إذا كان البطل شخصية غير محببة إلى نفس القارئ.
دعونا نمضى إلى أمثلة لنوضح هذا الأسلوب بشكل أفضل.
مثال إرتجالى فى مجال الشعر:
و بتنجرح..تدمى..و تصرخ
بس صراخك مش مسموع
و بتبتسم..تملى الفرحة عينيك
و قلبك لسه خنقاه الدموع
فأسلوب الراوى المخاطب يحادث قارئه.. و يجذبه للعمل.. و هو شئ مطلوب فى الشعر... و قد أصبح هذا النوع السردى موجود مؤخرا فى القصة القصيرة ليعطيها بعداً جديداً, مع أن الأدباء و النقاد دائما ما أوضحوا و أصروا أن أسلوب المخاطب لا يليق بالقصة القصيرة, وهو ما يثبت أن التحديث فى الأساليب السردية و الدخول بها إلى أبواب أدبية غير مطروقة من قبل ليس بالأمر العسير وليس حكرا لقوانين ثابتة كما سأوضح فى نهاية المقال إن شاء الله.
مثال إرتجالى فى مجال القصة القصيرة:
تصحو من نومك الطويل على صوت ذلك الرنين...
تحدق فى ذلك اللون الأبيض الذى يحيط بك من كل جانب..
لا تعرف كيف وصلت إلى هنا..أو ماذا ينتظرك...
تحاول أن تتذكر البداية..التى أقحمتك فى كل هذا...
فالراوى هنا كما هو واضح, زاوية أخرى للراوى العليم, و عكس الأسلوب الداخلى, أو كأنه خطاباً ما مع شخص وهمى..ولا أتحدث هنا عن خطاب إنسان لشئ ما كبيت أو شئ أو لقلبه كما يحدث فى الشعر, فهذا يقع ضمن أسلوب الراوى الداخلى لأن الشخص يتحدث مع شئ آخر و يخاطبه ليصف مشاعر خاصة به:
تمضى فى جراحك ياقلبى..تحاول عبثا أن تخفى تلك الآلام عن أعينهم..
فالراوى هنا داخلى..و ليس مخاطب..ومن هذه النقطة أود أن أوضح علامات من الممكن أن نفرق بها مبدأيا بين الأساليب السردية المختلفة ( وإن كان الإعتماد الأساسى على الحس الأدبى و القرائن داخل العمل ):
إذا إستخدم ضمير الغائب أو أسماء الإشارة فى النص...إذن الأسلوب المستخدم: الراوى العليم.
إذا إستخدم ضمير الملكية أو ياء المتكلم...فهذا الأسلوب هو: الراوى الداخلى ( النفسى ).
إذا استخدمت لفظة ( أنت ) أو ما يماثلها..أو ( كاف المخاطبة ) وما يماثلها...فالأسلوب المستخدم هو: الراوى المخاطب.
مع ذلك, فإن الكلمة الأخيرة التى أريد أن أقولها بهذا الصدد..الأساليب السردية المختلفة ليست قواعد لا يمكن تجاوزها..و ليست أيضا قيوداً تقيد الأديب عند الكتابة...فكثيرا من يكتب بموهبته دون معرفة الأساليب السردية, و لهذا يجب أن أوضح أخيراً كيفية الإستفادة من معرفة الأساليب السردية إستفادة كبيرة:
1 - عند وجود فكرة عمل لديك, تجد فى ذهنك صورة تلقائية عن الراوى المناسب ولو دون معرفة به..لكن بعد معرفته, فكر كيف سيكون العمل لو حولت أسلوب الراوى العليم إلى راوى داخلى أو إلى راوى مخاطب مثلا؟ هل سيناسب هذا العمل؟ هل سيفيدة و يقربه للقارئ أكثر؟ و قم بتجربة جملة من العمل فى خيالك على الأساليب المختلفة, و أنظر لوقع الكلمات على ذهنك ومشاعرك بكل أسلوب منفرد, وحينها يمكنك إختيار الأسلوب المناسب لجو العمل بدقة.
2 - فى حالات كثيرة يمكنك المزج بين عدة أساليب سردية فى عمل واحد, لكن كما وضحنا طوال المقال, هناك شعرة واهية بين مهارة التعدد فى الأساليب الأدبية و بين تشتيت القارئ و إخراجه من جو العمل تماماً.
3 - تغيير الأسلوب السردى يغير تماماً شكل العمل, و يشعر قارئ العمل بالتغيير بين كل عمل و آخر تكتبه.. فإذا شعرت بالرغبة فى تغيير و تنويع طريقة كتابتك حاول إستخدام أساليب سردية جديدة عليك...لتجد أن أعمالك اكتسبت شكلا جديدا تماماًَ.
كفتح مساحة للنقاش فى نهاية المقال, أحب أن أعرف أكثر أسلوب سردى تستخدمه عادة فى كتاباتك...؟ وما أكثر أسلوب سردى تعتقد أن كتاباتك فيه تبدو أجمل و أعمق فى عينيك كقارئ...؟
آخر المقال... أتمنى حقا أن أكون استطعت الإفادة بهذا المقال..و أتمنى لزملائى الأعزاء فى الأكاديمية كل التميز..