مدينة العميان
مرسل: 26 سبتمبر 2009, 8:17 pm
مدينة العميان
في هذه المدينة عاش الجميع حياة سعيدة هادئة ..... لا قلق فيها و لا خوف و لا جوع و لا فقر .... الكل أغنياء غير محتاجين .... المار بها قد يخيل إليه أنها قطعة من الجنة .... وهبها الله لفئة قليلة من الناس فكانوا بها محظوظين .
ربما لم تكن تلك الحياة الهادئة لتناسب أفرادا ألزموا على أنفسهم الحرية .... بل جعلوها محور الحياة ... والثورة من أجلها هي روح تلك الحياة ..... و الموت من أجلها هي منتهاها .
في هذه المدينة جرت عادة غريبة عن العالم كله وهي وجود مبنى كبير اسمه (مركز التحكم ) ......يمر عليه كل فرد بلغ العاشرة من عمره فيركب له على فمه جهاز يمنعه من الكلام .... و يشل حركة فمه نهائيا ..... و في هذه المدينة يكون الحوار بين أبنائها بمجموعة كبيرة من البطاقات توضح كل ما يحتاجه الفرد في حياته اليومية ..... و لم يعترض عليها أحد من قبل .... و رضى بها الجميع .... الشخص الوحيد المسموح له بالكلام و لا يرتدي هذا الجهاز المحكم ....... هو الحاكم الدائم لهذه المدينة ..... عرفوه و لم يعرفوا غيره ..... بل لم تخونهم أحلامهم للتفكير في غيره .
أما خطابات هذا الحاكم فالكل ينتظرها بفارغ الصبر لأن بها أخبار الدنيا كلها ..... وجميع القرارات الخاصة بالسياسة و الإقتصاد و شئون المدينة المختلفة .... و هذا أمر منطقي جدا .... فهو الوحيد الذي يتكلم و يسمعه الجميع.
و بالطبع لم يقتنع البعض – و هم قليل جدا – بهذه الحياة الميتة .... فلا حرية و لا حوار و لا مطالب سياسية ...... و لكن كل خططهم فشلت .... فهذا الجهاز المحكم كان مصمم بحيث أن فكه يؤدي إلى صعقة كهربائية شديدة تصيب المخ و تؤدي إلى الوفاة مباشرة .
فلجأ البعض إلى إثارة الجماهير على هذا الحاكم .... فقد علموا أن هذه الحياة مقدر لنا أن نعيشها بكل تحدياتها و صراعتها .... و ليس من حق أحد سلبنا حقوقنا الطبيعية في الحياة الكريمة .... و لكن هذه المحاولات أيضا لم تلاق قبول الناس لأنها لم تأخذ وقتا في الإنتشار بسبب صعوبة الحوار و التخاطب .... و أيضا يقظة حراس الحاكم الذين يكتشفون كل محاولات الإنقلاب بين يوم و ليلة .
خالد شاب طموح لا يرى الحياة في الفتات الذي يسمح به هذا الحاكم لعبيده ... أو لرعاياه كما يسميهم .... و قد سمع من صديقه حسام أنه بعد سنين من العمل الطويل توصل إلى طريقة يظن أنها تصلح لفك هذا الجهاز المحكم.
و عندما شعر خالد أن اليأس قد أقام على صدره فلم يترك فسحة لنفسه ... تساوت عنده الحياة و الموت ..... لجأ إلى صديقه يطلب منه فك جهازه لأنه يريد أن ينطلق إلى جهاز الإذاعة و يعلن للمدينة كلها أنه ثائر على هذا الحاكم عسى هذا أن يحيي قلوب ماتت و عقول شاخت .... و عند وقت التنفيذ أشار حسام : " يا خالد ... لقد أخبرتك أنها مجرد محاولة و لا أضمن نجاحها و قد تنتهي بموتك و أنت تعلم هذا"..... رد خالد : " صدقني لا يهم ... أنا راضي بأي نتيجة " .
و بعد ساعتين من القلق وجد خالد الجهاز مخلوعا على الأرض فعلم أن الحلم قد تحقق .... و أسطورة الظلم قد زالت بلا عودة .... و صاح مع صديقه في فرحة .... و لم ينطق بكلمة واحدة .... فكان كل همه أن يصل إلى مقر الإذاعة قبل القبض عليه ليلقي بيانا لم يتعود المواطنون سماعه .
و عند وصول خالد إلى مقر الإذاعة .... لم يكن يصدق أن النهاية بهذه البساطة .... و أن حلمه أصبح واقعا لا سرابا مات يتمناه الكثيرون ... و دخل مبنى الإذاعة بسهولة شديدة فلم يكن من المتوقع أن يستغله أحد بأي صورة ..... و أمسك الميكروفون استعدادا لإلقاء ما حفظه و ردده في نفسه لسنوات طويلة .... و لكن عندما جاء لينطق أول كلمة .... جاءت الصدمة ..... إنه لا يستطيع الكلام .... ما هذا ؟ ..... إن لسانه قد ثقل لا يستطيع الحركة ..... تصبب خالد عرقا لا يصدق ما يحدث.... و أخذ يكرر المحاولة مرة بعد مرة ..... و لكن هيهات .... يبدو أن تعطل لسانه عن الكلام لسنوات كثيرة ... أدى إلى ضمور عضلة اللسان .... و انتهى الحلم فجأة ..... انتهى سريعا كما بدأ سريعا .
الحل و اضح بالنسبة لخالد .... فقد أسرع إلى ( مركز التحكم ) يطلب تركيب جهاز آخر له و يعترف بكل شيء ... عسى هذا أن يخفف عقوبته .
و بقى الحال كما هو عليه ..... المدينة لم تتغير كثيرا ..... بل ربما لم يسمع أحدا به ...... في هذه المدينة قد ترى الظلم واضحا أمام عينيك لكنك لا تقوى على ردعه .... و قد يتمثل أمام ناظرك القهر بكل أشكاله .... و لا سلطة لك لمنعه ... لقد تحولت إلى مدينة عميان .... من حقك فقط أن تعيش حتى تموت .
مصطفى جبر
في هذه المدينة عاش الجميع حياة سعيدة هادئة ..... لا قلق فيها و لا خوف و لا جوع و لا فقر .... الكل أغنياء غير محتاجين .... المار بها قد يخيل إليه أنها قطعة من الجنة .... وهبها الله لفئة قليلة من الناس فكانوا بها محظوظين .
ربما لم تكن تلك الحياة الهادئة لتناسب أفرادا ألزموا على أنفسهم الحرية .... بل جعلوها محور الحياة ... والثورة من أجلها هي روح تلك الحياة ..... و الموت من أجلها هي منتهاها .
في هذه المدينة جرت عادة غريبة عن العالم كله وهي وجود مبنى كبير اسمه (مركز التحكم ) ......يمر عليه كل فرد بلغ العاشرة من عمره فيركب له على فمه جهاز يمنعه من الكلام .... و يشل حركة فمه نهائيا ..... و في هذه المدينة يكون الحوار بين أبنائها بمجموعة كبيرة من البطاقات توضح كل ما يحتاجه الفرد في حياته اليومية ..... و لم يعترض عليها أحد من قبل .... و رضى بها الجميع .... الشخص الوحيد المسموح له بالكلام و لا يرتدي هذا الجهاز المحكم ....... هو الحاكم الدائم لهذه المدينة ..... عرفوه و لم يعرفوا غيره ..... بل لم تخونهم أحلامهم للتفكير في غيره .
أما خطابات هذا الحاكم فالكل ينتظرها بفارغ الصبر لأن بها أخبار الدنيا كلها ..... وجميع القرارات الخاصة بالسياسة و الإقتصاد و شئون المدينة المختلفة .... و هذا أمر منطقي جدا .... فهو الوحيد الذي يتكلم و يسمعه الجميع.
و بالطبع لم يقتنع البعض – و هم قليل جدا – بهذه الحياة الميتة .... فلا حرية و لا حوار و لا مطالب سياسية ...... و لكن كل خططهم فشلت .... فهذا الجهاز المحكم كان مصمم بحيث أن فكه يؤدي إلى صعقة كهربائية شديدة تصيب المخ و تؤدي إلى الوفاة مباشرة .
فلجأ البعض إلى إثارة الجماهير على هذا الحاكم .... فقد علموا أن هذه الحياة مقدر لنا أن نعيشها بكل تحدياتها و صراعتها .... و ليس من حق أحد سلبنا حقوقنا الطبيعية في الحياة الكريمة .... و لكن هذه المحاولات أيضا لم تلاق قبول الناس لأنها لم تأخذ وقتا في الإنتشار بسبب صعوبة الحوار و التخاطب .... و أيضا يقظة حراس الحاكم الذين يكتشفون كل محاولات الإنقلاب بين يوم و ليلة .
خالد شاب طموح لا يرى الحياة في الفتات الذي يسمح به هذا الحاكم لعبيده ... أو لرعاياه كما يسميهم .... و قد سمع من صديقه حسام أنه بعد سنين من العمل الطويل توصل إلى طريقة يظن أنها تصلح لفك هذا الجهاز المحكم.
و عندما شعر خالد أن اليأس قد أقام على صدره فلم يترك فسحة لنفسه ... تساوت عنده الحياة و الموت ..... لجأ إلى صديقه يطلب منه فك جهازه لأنه يريد أن ينطلق إلى جهاز الإذاعة و يعلن للمدينة كلها أنه ثائر على هذا الحاكم عسى هذا أن يحيي قلوب ماتت و عقول شاخت .... و عند وقت التنفيذ أشار حسام : " يا خالد ... لقد أخبرتك أنها مجرد محاولة و لا أضمن نجاحها و قد تنتهي بموتك و أنت تعلم هذا"..... رد خالد : " صدقني لا يهم ... أنا راضي بأي نتيجة " .
و بعد ساعتين من القلق وجد خالد الجهاز مخلوعا على الأرض فعلم أن الحلم قد تحقق .... و أسطورة الظلم قد زالت بلا عودة .... و صاح مع صديقه في فرحة .... و لم ينطق بكلمة واحدة .... فكان كل همه أن يصل إلى مقر الإذاعة قبل القبض عليه ليلقي بيانا لم يتعود المواطنون سماعه .
و عند وصول خالد إلى مقر الإذاعة .... لم يكن يصدق أن النهاية بهذه البساطة .... و أن حلمه أصبح واقعا لا سرابا مات يتمناه الكثيرون ... و دخل مبنى الإذاعة بسهولة شديدة فلم يكن من المتوقع أن يستغله أحد بأي صورة ..... و أمسك الميكروفون استعدادا لإلقاء ما حفظه و ردده في نفسه لسنوات طويلة .... و لكن عندما جاء لينطق أول كلمة .... جاءت الصدمة ..... إنه لا يستطيع الكلام .... ما هذا ؟ ..... إن لسانه قد ثقل لا يستطيع الحركة ..... تصبب خالد عرقا لا يصدق ما يحدث.... و أخذ يكرر المحاولة مرة بعد مرة ..... و لكن هيهات .... يبدو أن تعطل لسانه عن الكلام لسنوات كثيرة ... أدى إلى ضمور عضلة اللسان .... و انتهى الحلم فجأة ..... انتهى سريعا كما بدأ سريعا .
الحل و اضح بالنسبة لخالد .... فقد أسرع إلى ( مركز التحكم ) يطلب تركيب جهاز آخر له و يعترف بكل شيء ... عسى هذا أن يخفف عقوبته .
و بقى الحال كما هو عليه ..... المدينة لم تتغير كثيرا ..... بل ربما لم يسمع أحدا به ...... في هذه المدينة قد ترى الظلم واضحا أمام عينيك لكنك لا تقوى على ردعه .... و قد يتمثل أمام ناظرك القهر بكل أشكاله .... و لا سلطة لك لمنعه ... لقد تحولت إلى مدينة عميان .... من حقك فقط أن تعيش حتى تموت .
مصطفى جبر