لا تعلم نهى لماذا ظلت تتردد كلمات هذه الأغنية بخاطرها من بعد الوفاة حتى المضي قدماً بحياتها ، نعم هي أغنية عن الأم لكن لماذا تشعر أنها فقدت العالم بأسره لفقدانها ؟ نعم إنها أمها لكن لماذا تشعر أن تلك الأحاسيس التي تتحدث عنها الأغنية ستشعر بها حقاً بالرغم من وجود أبيها و أخيها و صديقاتها بالكلية حولها ؟ فهي تؤمن بقرارة نفسها أن الحياة لا تتوقف على رحيل أحد إيماناً شديداً؛ لذلك لم تشغل نهى نفسها بالإجابة على كل هذه الأسئلة ، و بدلاً من ذلك قررت أن تمضي بحياتها لتكمل مسيرة أمها و لتحقق أحلامها و طموحاتها ، قررت أن تنسى تلك الأيام الأليمة التي قضتها بالمستشفى برفقة أمها تسمع آهات المرضى و ترى صغار السن يموتون واحداً تلو الآخر ، قررت أن تنسى صراخ الناس و نحيبهم إثر فقدانهم أغلى الناس و أقربهم إلى قلوبهم ، قررت أن تنسى استهزاء الأطباء بالمرض و سعادتهم لاكتشافهم الجديد بعالم الطب من حالات نادرة تعاني من أورام خبيثة دون الالتفات لمشاعر المريض أو أهل المريض ، و قررت أن تلتفت لدراستها و حياتها و حياة أبيها حتى تنظر إليها أمها من السماء راضية سعيدة ، كانت تقبل ذلك الدب الصغير الذي أحضرته لها أمها بأحد أعياد ميلادها قبل النوم كل ليلة قائلة بهدوء :
تصبحي على خير يا ماما ...
ثم تقرأ الفاتحة و تنام ، تنام كثيراً حتى تنسى الآلام و الفراق أو بمعنى أدق حتى تتناسى كل ذلك ، و ما ساعدها على تخطي محنتها كان دراستها و صديقاتها و تلك الأوقات التي تقضيها برفقتهن سواء بكافيتريا الكلية أو المكتبة العامة ، و بالرغم من شعورها بأنها عجوز تجاوزت الخمسينات من عمرها برداءها الأسود و حزنها الصامت و نظرات الشفقة و التساؤل حولها ؛ إلا أنها كانت أحياناً تضحك من قلبها على أحد النكات التي تطلقها سالي أو الحركات التي تفعلها أميرة حتى مضت بها الأيام مثلما تمضي بنا دائماً .....
وقفت نهلة تطالع إرفف الكتب بالركن الخاص بالأدب بإحدى قاعات المكتبة برفقة نهى ، و بينما كانت تبحث عن أحد كتب فن التمثيل أو المسرح كانت تبحث نهى عن إحدى الروايات العالمية المترجمة أو الإنجليزية ، نظرت نهى لنهلة فوجدتها شاردة صامتة فسألتها بود :
_ مالك النهاردة يا نهلة ؟ في حاجة و لا إيه ؟
أطلقت نهلة زفيراً يعبر عن تأففها و ضيقها و قالت :
_ اتقدملي عريس إنبارح يا ستي ..
أطلقت نهى ضحكة رنانة رغماً عنها جعلت عيون القارئين بالقاعة و أحد أمناءها تلتفت إليها فاحمرت خجلاً بينما نظرت لها نهلة بتعجب غاضبة من ضحكها بالرغم من ضيق صديقتها فقالت نهى معتذرة :
_ سوري يا نهلة و الله بس أول مرة أشوف بنت جايلها عريس و تضايق .
_ إنتي عارفة وجهة نظري ف الموضوع ده يا نهى .. استحالة اتعرض زي البضاعة قدام العريس لازم يكون في بينا حب .. لازم أعرفه و أعرف شخصيته و ميوله أولاً .. نفسي يكون فنان مرهف الحس زيي .
أمسكت نهى بإحدى روايات شكسبير قائلة :
_ يا بنتي حب إيه ؟ ليه بتبصي للموضوع من زاوية واحدة مش يمكن يكون إنسان كويس .. مش يمكن لما تقعدي معاه و تتعرفي عليه تلاقيه مرهف الحس و فيه المواصفات اللي إنتي عايزاها .
نظرت نهلة بتعجب و قالت :
_ غريبة إني أسمع منك الكلام ده يا نهى ، طول عمرك بتكرهي الرجالة و تكرهي الجواز و تقولي إنه بيعطل طموح الإنسان !
_ أنا اتغيرت يا نهلة ؛ ماما الله يرحمها لما عرفت بتعبها و عرفت عندها إيه قالت للدكتور يا رب نهى تتجوز و بعدين أموت مش مشكلة .. و من ساعتها و أنا حاسة إن دي وصية منها ليا مش عارفة ليه ؟
أطرقت نهلة رأسها و قالت :
_ الله يرحمها ، عامة أنا رفضته و قلتلهم مش عايزة حد يفتح الموضوع ده معايا لغاية ما اخد الليسانس إن شاء الله .
_ إن شاء الله
_ سالي و أميرة اتأخروا أوي ؟
_ فعلاً معقولة كل ده بيشوفوا إعلان المسابقة ...
و قبل أن تكمل نهى حديثها وجدت سامي مسؤل القاعة يقترب منهم و ينظر إليها بحنان و رقته التي تعبر عن اهتمامه بها كما اعتادت و سألها :
_ عايزين كتاب معين ؟
فنظرت له متعجبة لأن القاعة تعج بالعديد من القراء و لم يسأل أحدهم مثلما سألهم فقالت له :
_ ميرسي .
فنظر لها قليلاً ثم عاد لمكتبه مثل خاسر المعركة فتطلعت له نهلة بإشفاق و قالت لنهى :
_ و الله بيصعب عليا .
_ مايصعبش عليكِ غالي ، يلا ننزل في جنينة المكتبة نستنى أميرة و سالي .
جلست نهلة برفقة نهى على إحدى طاولات حديقة المكتبة بأشجارها و نخيلها اليافع و حقولها الخضراء مستمتعتين بالجو الدافيء و الهواء النقي فبدأت نهلة حديثها :
_ شفتي اللي حصل في ماتش مصر و الجزاير ؟
_ ما تفكرينيش يا نهلة ، بجد مهزلة ليه يحصل كل ده ؟ كل ده عشان كورة ؟
_ بكرة يلعبوا في الدوري و تلاقيهم برضه بيقتلوا في بعض ، كل ده بسبب كورة بجد حاجة تزعل .
_ كمال أخويا بيقول أمي ماتت من إسبوعين و حاسس إن مصر أمي اللي بقيالي ماتت هي كمان .
_ فعلاً حاجة تضايق ، المفروض نتحد مش نتفرق .
أنهت نهلة حديثها و تطلعت إلى الشمس التي تبعث في نفسها الأمل و الإشراق دائماً ثم عادت لتنظر لنهى لتفتح حديثاً آخر و قبل أن تنطق بكلمة وجدت رجلاً ينظر إليها بافتنان جالساً على إحدى الطاولات اللاتي تجاورهن يتناول فنجان من القهوة واضعاً أمامه بعض الأوراق و الجرائد ، كان طويل القامة مفتول العضلات وجهه مستدير بعض الشيء أكسبته الشمس بعض السمرة فزادته جاذبية و يبدو على مظهره بعض الجدية .. له عينان عسليتان لامعتان بسحر غريب شعرت بهما يجذباها لعالم خطير ، حينما وجدها تحدق فيه ابتسم لها فأدارت بوجهها باتجاه آخر لكن خفقان قلبها ازداد بشدة ، و شعرت بنفسها مضطربة لا تعرف سر شعورها ذلك الذي تتذوقه لأول مرة بحياتها ، أفاقت من شرودها على صوت نهى تقول :
_ أميرة و سالي هناك .. وصلوا أخيراً .
وصلت سالي برفقة أميرة فدعتهما نهى للجلوس فرفضا قائلين :
_ المفروض نتقدم لمسابقة المسرح دلوقتي مفيش وقت .
قالت نهلة بتعجب :
_ إزاي دلوقتي ؟ أنا مش مستعدة .
ردت سالي قائلة :
_ للأسف كلنا مش مستعدين ، هما في انتظار المخرج دلوقتي و سيادته اللي قرر كدة فجأة لأنه اختار النص بتاع المسرحية من مسابقة الأدب بتاعة السنة اللي فاتت ، و عايز يستقر على الكاست علشان يقدر ينجز .
برقت عينا نهى و قالت كأن الأمل يداعبها حيث كانت إحدى المتسابقات بتلك المسابقة فتساءلت بلهفة :
_ معرفتوش اختار أي نص ؟
نظرت لها أميرة برفق :
_ لسة يا نهى و الله ، عامة مش تقلقي إن شاء الله حيختار نصك بس يلا بينا زمانه وصل .
نهضت نهى حاملة حقيبتها السوداء حينما نهضت نهلة هي الآخرى ملتفتة تجاه ذلك الرجل الذي رأته منذ قليل لكنها وجدت مكانه خالي فأدركت أنه انصرف فشعرت ببعض خيبة الأمل متعجبة في نفسها من ذلك !
وصلت الأربع فتيات إلى قاعة المسرح بالجامعة ليجدن حشد كبير من شباب و فتيات الجامعة يتحادثون بصوت عالِ جعل القاعة صاخبة بعض الشيء و الجو خانقاً حتى أنك لا تستطيع أن تضع قدميك على الأرض ، تقدمت أميرة برفقة نهلة بينما لحق بهما نهى برفقة سالي فاصطدم أحد الوافدين إلى القاعة بكتف نهلة بشكل قوي جعلها تتأوه فنظرت أميرة متأففة قائلة :
_ سيتامبوسيبل مش تاخد بالك .
فنظر ذلك الشخص للخلف ليعتذر لنهلة فإذا به ذلك الرجل الذي كان بحديقة المكتبة منذ قليل ، تسارعت دقات قلب نهلة بينما رجع هو للخلف قليلا ً من هول المفاجأة ثم اقترب منها ثانيةً و ابتسم و همس لها بصوت دافيء لبق :
_ آسف جداً .
و انصرف مسرعاً فابتسمت نهلة بينما شيعته أميرة بنظرات ساخطة ، فكرت نهلة في احتمال أن يكون قد لحق بهم لكنه انصرف قبل انصرافهم فكيف يكون قد لحق بهم ؟ أفاقت نهلة من شرودها على صوت أحد مسؤلي الجامعة يقول بصوت عالِ من خلف الميكروفون :
_ يا شباب يا ريت نهدى شوية أ/ وحيد تيسير المخرج وصل .
-قالت سالي بعجرفة مماثلة لعجرفة أميرة و هي تواصل سيرها داخل القاعة برفقة نهى خلف أميرة و نهلة ليستقروا على أربع مقاعد بمقدمة القاعة :
_ أخيراً شرف حضرته .
فنظرت لها نهى ضاحكة و قالت :
_ واضح إن قعادك مع أميرة كتير أثر عليكِ .
_ قصدك إيه ؟
_ و لا حاجة .
بادلتها نهلة الضحك بينما نظرت سالي و أميرة تجاه نهى و نهلة بتساؤل و كأنهما حمقاواتان تضحكان على اللا شيء ثم توقفت نهلة عن الضحك مشدوهة حينما تصاعد صوت المخرج لتجد أن وحيد تيسير هو ذلك الرجل الذي أعجبت به منذ قليل ، وضعت أميرة يديها على وجهها تحاول إخفاءه حينما رأته لأنها قامت بتوبيخه منذ قليل قائلة بانفعال :
_ أوه ماي جاد ( يا إلهي بالإنجليزية )
تطلع وحيد إلى القاعة باحثاً عن ذلك الوجه البريء المشرق للحياة الذي رآه منذ قليل قائلاً بصوت واضح و ثقة واضحة :
_ أنا النهاردة سعيد جداً إن الكلية اللي اتخرجت منها تكون اختارتني عشان أخرج مسرحية و أتمنى نشتغل مع بعض كويس و مش يحصل بينا أي صدام ، في البداية حعلن عن شخصين أول حد هو صديقي المقرب و مهندس ديكور المسرحية إن شاء الله الأستاذ أدهم خطاب .
تعالى التصفيق الحاد بالقاعة مع صفير أحد الشباب الذي يجلس خلف أميرة مباشرة فصعق أذنيها فنظرت له أيضاً شذراً كما اعتادت أن تفعل حينما تغضب على خلق الله ، صفير الشاب نبه وحيد فجعله ينظر تجاهه ليرى نهلة تجلس أمامه فتطلع لها بتلك النظرة الفاتنة فنظرت لأسفل خجلة ، هدأ التصفيق فقال وحيد :
_ تاني شخص و اللي يعتبر مفاجأة هو أو هي مؤلف النص اللي معانا اللي حنمثله إن شاء الله و يبئى زميل منكم أحد طلاب كلية الآداب ... الطالب ... آسف الطالبة نهى القاضي .. عن مسرحيتها الكوميدة الساخرة ( الحدق يفهم ) .. يا ريت تتفضل تشرفنا هنا ..
لم تصدق نهى أذنيها من شدة الفرحة بينما قامت صديقاتها بالتصفيق الحاد سعيدات لفوزها و لاشتراكها معهم بعمل مسرحي كهذا ...
صعدت نهى سلم المسرح بوقار و سلمت على وحيد و أدهم و مسؤلي الكلية و حينما هدأ التصفيق قال وحيد :
_ و دلوقتي حيتقدم ليا كل طالب و طالبة من حضراتكم عشان اختبار بسيط جدا و بتمنى لكم التوفيق جميعاً ..
جلست نهى برفقة وحيد و أدهم يستمعون جميعاً لكل المواهب من غناء و تمثيل و إلقاء ...
و بآخر ذلك اليوم المرهق كانت الأسماء معلقة هكذا ...
أميرة حمزة ... غناء
سالي عطا ... شعر و إلقاء
نهلة وهدان ... تمثيل .
يتبع بالفصل الثالث إن شاء الله