لم تبالِ نهى كثيراً بمشاعرها و لم تجهد نفسها كثيراً في تفسير تلك المشاعر فهي لا تريد أن تضيع لحظة بعمرها في التفكير بأي شيء يعكر صفوها خاصةً أنها الآن بآخر سنة لها بالكلية أي آخر عام تقضيه برفقة صديقاتها و يعلم الله وحده ما يخبئه لهم القدر بالسنين القادمة ، لذا فقد قررت الاستمتاع بكل لحظة من حياتها ..
استيقظت نهى نشيطة تستقبل يوماً آخر من حياتها بتفاؤل و نشاط ؛ نهضت عن سريرها بهمة ثم اغتسلت جيداً ثم قامت بفتح نافذة غرفتها التي ترى منها من على بعد ذلك الموقف الذي تتقابل عنده مع صديقاتها ليصعدوا الحافلة لتوصلهم للجامعة ؛ ابتسمت لدى رؤيتها الموقف ثم نظرت للسماء و الشمس المشرقة بابتسامة كلها تفاؤل و حيوية أنارت وجهها الأبيض و زادته إشراقاً ثم قالت في نفسها :
_ صباح الخير يا مصر .. نهى صحيت يا بشـــــــــــــــر .
تناولت فطورها جيداً برفقة أبيها ثم ارتدت ملابسها بألوان زاهية تعبر عن إشراقها و إقدامها على الحياة من جديد و انطلقت إلى المكتبة .
جلست نهى على إحدى المقاعد التي تواجه مكتب سامي ممسكة بين يديها كتاب لأنيس منصور ؛ بدأت تطالع الكتاب بنهم متسائلة في نفسها عن سبب غياب سامي ، ربما هو بمكان ما أو لم يأتِ بعد و ربما هو لن يأتي مطلقاً اليوم ، بدأت تقرأ حتى اندمجت بما تقرأ فمر الوقت سريعاً دون أن تشعر لكنها أفاقت على صوت إحدى الفتيات من قراء المكتبة تسأل أحدهم :
_ إنت كنت فين ؟
رفعت نهى رأسها عن الكتاب بعدم اهتمام لتجد أن الفتاة تسأل سامي نفسه ، تعجبت نهى من فكرة أن تعتاد الفتاة على سامي هكذا فتسأله عن مكانه ثم بدأ الشك يتسلل إلى قلبها ترى هل هي فقط من تعتاد عليه هكذا ؟ أم أن هناك آخريات ؟
أجاب سامي الفتاة بهدوء و صوت غير مسموع لم تستطع نهى تمييز مفرداته جيداً فعادت للقراءة ثانية دون أن تنكر غيظها خاصةً حينما سمعت الفتاة تردد في دلع :
_ أنا عطشانة .
نظرت نهى فوجدت سامي على مكتبه ينظر تجاهها و كأنه يكتشف تأثير ما يحدث عليها فأدارت وجهها بينما قال سامي للفتاة مشيراً لزجاجة الماء فوق مكتبه :
_ خديها إمليها و إشربي .
ردت الفتاة بدلعها الذي يستفز نهى :
_ أصل انا تعبانة .. مش حقدر أقوم .
صمت سامي و لم يرد بينما وقفت نهى و أخذت بعض الكتب التي تود استعارتها ثم اتجهت إلى مكتبه ليسجل الاستعارة حيث كانت تقف فتاة آخرى واضعة كتاب لنجيب محفوظ أمامه على المكتب فظن أن الكتاب لنهى فنظر لها و قال :
_ للأسف مش حينفع نطلع الكتاب ده .
كان من الممكن أن تفهمه نهى بهدوء أن ذلك ليس كتابها لكن بدلاً من ذلك نظرت إليه باحتقار كما اعتادت و قالت بنبرة غاضبة :
_ أصلاً مش أنا اللي حستعير .
ابتسم سامي بهدوء و قال :
_ أنا مش أقصد الكتاب ده بالذات مفيش استعارة النهاردة أصلا ً ..
اغتاظت نهى و اضطرت أن تعود أدراجها لتضع الكتب التي كانت تحملها ثم اتجهت للباب الذي يواجه مكتب سامي مرة آخرى لتخرج ذاهبة للمسرح ..
دلفت نهى لقاعة المسرح متبرمة جراء ما حدث معها منذ قليل بالمكتبة خاصةً أن ذلك الموقف البسيط قد أفسد يومها الذي بدأته بإشراق ، تطلعت إلى القاعة تبحث عن أحد من أصدقائها فوجدت نهلة برفقة وحيد يجلسان منفردان يضحكان و يتهامسان كما توقعت بالضبط ، بينما وقفت أميرة تتحادث بهاتفها الخلوي ذهاباً و إياباً بالقاعة كالمعتاد ، بينما جلست سالي بجوار أدهم يضحكان إما على نكتة لأدهم أو لحديثه الممتع الذي اعتادوا عليه ، ابتسمت نهى في نفسها بخبث كأنها بطلة فيلم سينمائي قديم من الطراز الأول تعلم ما يدور به من أحداث و تفهم الحدوتة جيداً .
اتجهت نهى تجاه سالي و أدهم فرحبا بها بينما وقفت سالي تصافحها و تقبلها ثم جلسا معاً قبالة أدهم فسألتهما نهى :
_ إيه الأخبار ؟ بدأتوا بروفات النهاردة و لا لسة ؟
ابتسم أدهم بخبث ناظراً تجاه وحيد و نهلة قائلاً :
_ لسة مابدأناش .. المخرج مش فاضي شكله بيعقد جلسة سرية مع بطلة المسرحية .
ثم ضحك فبادلاه سالي و نهى الضحك حينما قدمت إليهم أميرة متأففة يبدو عليها أمارات الغضب فبادرها أدهم مداعباً :
_ أخيراً خلصتي ؟
_ خَلصت و خِلصت .
ضحكت سالي و قالت واقفة :
_ الحب بهدلة على رأي شكوكو .
فضحك الجميع بينما نظر أدهم لسالي مبتسماً و قائلاً بجدية :
_ لأ مش بهدلة يا سالي ، و بكرة تغيري الفكرة دي .
فقالت بدلع مازحة :
_ متأكد ؟
_ جداً .
فابتسمت سالي ثم انصرفت عنهم متجهة لأيمن بطل المسرحية ذلك الشاب الوسيم الثري الذي تلاحقه الفتيات بالجامعة لا لثرائه فقط بل لوسامته الشديدة مثل نجوم السينما و مستقبله المرموق بعد التخرج كرئيس مجلس إدارة لمجموعة شركات والده .
تطلع أدهم إلى سالي بضيق أثناء ابتعادها فلاحظت نهى ذلك فأرادت أن تمحو ذلك الضيق و تقطع الصمت و السكون الذي أحاط بهم فقالت له :
_ إيه أخبار الديكورات يا باشمهندس ؟
_ تمام بس بصراحة ديكورات مسرحيتك دي صعبة شوية ، بس يلا عشان خاطر وحيد .
ضحكت نهى و قالت بعتاب ماذح :
_ عشان خاطر وحيد بس ؟
ابتسم أدهم و قال واقفاً :
_ و أنا أقدر ؟
نظرت له نهى مستفهمة فسألته :
_ إيه على فين ؟
_ حمشي أنا بئى عشان عندي شغل ف المكتب .
_ أوكي ربنا يوفقك .
و قبل أن ينصرف نظر تجاه سالي التي اندمجت بحديثها مع أيمن منفردين ثم قال :
_ ابئي سلميلي على سالي يا نهى .
_ حاضر يا أدهم .
_ يلا سلام يا نهى .. سلام يا أميرة .
و بعد انصرافه نظرت نهى لأميرة و سألتها :
_ مالك يا مرمر ؟
_ محمد يا نهى مش عايزني أكمل المسرحية .
_ ليه بس ؟
_ عشان مش أغني و عشان الاختلاط .
زمت نهى شفتيها ثم قالت مازحة لتضحك صديقتها :
_ طبعاً لازم يغير يا مرمر . حد يخطب القمر ده و مايغيرش ؟
ابتسمت أميرة فقالت لها نهى بحنان :
_ هو كل الحكاية إنه بيغير عليكي شوية عشان بيحبك كتير ، حنعمل إيه ؟ نقولوه ماتحبهاش البت الحلوة دي كتير كدة ؟
ضحكت أميرة فسعدت نهى لضحكها و نظرت تجاه نهلة فوجدتها مستغرقة بحديثها مع وحيد فقالت لأميرة :
_ أنا حمشي يا مرمر عشان صدعت شوية
_ لسة بدري ؟
_ معلش .. نتكلم بالليل على الإيميل ان شاء الله .
عادت نهى لبيتها فدلفت إلى حجرتها فوراً لتخلع ثيابها ثم استلقت فوق سريرها تفكر فيما حدث بيومها حينما سمعت صوت باب شقتها كأن أحد ما يفتحه فخمنت أنها سلمى زوجة أخيها قد قدمت من شقتها بالأعلى لتراها ، و بالفعل وجدت سلمى بغرفتها تسألها :
_ رجعتي بدري ليه ؟
_ صدعت قلت أروح أنام .
_ أوكي نامي و خدي بودي جنبك ينام .
أخذته نهى فقبلته ثم وضعته بجوارها لينام ثم ألقت بجسدها لتنام هي أيضاً حينما أغلقت سلمى عليها باب غرفتها متجهة للمطبخ لإعداد طعام الغداء ، و بينما وقفت سلمى تغسل بعض الأطباق بالمطبخ سمعت صوت باب الشقة كأن أحد ما يفتحه فتعجبت لأن كمال زوجها لا يعود الآن حيث يعمل برفقة والده كتاجر بمحلات لتجارة الخشب ، فخرجت لترى القادم فكان لدهشتها كمال فعلاً يجلس على أريكة الأنتريه بالصالة حزيناً شارداً فسألته سلمى :
_ في إيه ؟ مالك ؟
_ فين نهى ؟
_ نايمة . إنت معيط يا كمال ؟
_ من يوم أمي ما ماتت مفيش حاجة أزعل عليها .
_ في إيه بس ؟
صمت قليلاً ثم قال بغضب واضح لم يستطع هدوءه أو هدوء صوته أن يخفيه :
_ بابا بعد العشرة دي كلها حيتجوز و لسة ما مرش شهرين على وفاتها الله يرحمها .
يتبع بالفصل الرابع