وقفت نهى أمام كمال و سلمى مصدومة ثم نظرت لكمال خائفة لتسأله :
_ مين قالك الكلام ده ؟
_ بابا نفسه يا نهى .
_ و إنت قلتله إيه ؟
_ قلتله مفيش مرات أب تدخل على نهى .
_ صح كدة ؛ و هو كان رده إيه ؟
_ قاللي إنه موافق و إنه أجر شقة خلاص .
قالت نهى بحسرة :
_ يعني كمان مخطط و محضر نفسه ؟ !
تدخلت سلمى بالحوار و قالت قلقة :
_ بس نهى حتنام لوحدها في الشقة ؟
فرد كمال مسرعاً :
_ لا طبعاً .. تطلع تنام معانا فوق .
ردت نهى بلهفة و إصرار :
لا طبعاً .. أنا حنام هنا .. شقة ماما حتفضل زي ما كانت في حياتها بالظبط ، إسمعني كويس يا كمال ، شقة ماما محدش يدخل فيها بعدها و لا ينام مكانها بعدها ؛ بابا عايز يتجوز مفيش مشكلة بس يكون مش في البيت و أنا مش تقلق عليا .. طول عمري و أنا بعتمد على نفسي حتى أيام الله يرحمها ما كانت لسة عايشة و إنت عارف كدة كويس ؛ الفرق الوحيد إنها لما كانت عايشة كانت عطياني إحساس بالأمان لكن بعد وفاتها خلاص راح ، عشان كدة وجود بابا أو عدمه مش حيفرق معايا كتير ، أهم حاجة إنه يكون راضي عننا زي هي الله يرحمها ما ماتت راضية عننا ، و أنا معاكوا أهو مش تقلقوا عليا .
ردت سلمى قائلة :
_ بس إنتي مش حينفع تنامي لوحدك يا نهى ؟
ابتسمت نهى و قالت بمرح زائف :
_ ليه يعني ؟ حياكلني الدود ؟ مانا معاكم بردو يا سلمى في نفس البيت مش حيحصلي حاجة ، و لا تقلقوا عليا أبداً ، أنا كدة مرتاحة .
نظرت إليها سلمى غير مقتنعة بينما نظر إليها كمال قلقاً فطمأنته بنظرة حنون بالرغم من كم مشاعر الحزن و الأسى التي تشعر بها .....
وقفت نهلة بالمطبخ تعد بعض فطائر البيتزا التي تحب تناولها برفقة أخواتها تستمع إلى صوت عبد الحليم الحنون المتصاعد من الراديو يردد كلمات نزار قباني فبدأت تغني معه بمرح و تردد وراءه .. لو أني أعلم أن الحب خطير جداً ما أحببت .. لو أني أعرف ان البحر عميق جداً ما أبحرت .. لو أني أعلم خاتمتي ما كنت بدأت ..
و قفت تردد الكلمات بسعادة عارمة تفكر في حبيبها وحيد سعيدة لأنها أخيراً وجدت الرجل الذي كانت تتمناه و الذي حلمت به كثيراً و تخيلته بأحلامها الوردية ، أخيراً وجدت فتى أحلامها الذي يجمع بين صفات الرجولة بشهامته و شجاعته و قوة شخصيته و بين صفات الفنان بإبداعه و حسه المرهف و رقة مشاعره ، و حينما تتذكره و تتذكر أحاديثه الممتعة تتذكر كلمات الغزل العفيف الذي يحدثها بها و تتذكر كيف صرح لها بمشاعره و حبه الكبير إليها منذ رآها لأول وهلة ؛ فتتصاعد صورته الوسيمة بمخيلتها فيزداد قلبها خفقاناً و تتسارع دقاته بشدة ، وضعت نهلة شطائر البيتزا بالفرن حتى تنضج حينما دلفت إليها أختها الصغرى سناء قائلة بصوت خافت :
_ نهلة .. موبايلك بيرن .
_ مين يا سوسو ؟
_ وحيد .
ابتسمت نهلة بفرحة كبيرة أنارت عينيها العسليتين ببريق لامع يعبر عن حبها الشديد لوحيد و قالت لسناء :
_ خللي بالك من البيتزا .. و حروح أرد عليه .
ابتسمت سناء موافقة بينما خرجت نهلة مسرعة إلى غرفتها تغلقها وراءها لتتحدث إلى وحيد ، و زاد وجهها احمراراً حينما سمعته يقول لها :
_ وحشتيني أوي .
_ حرام عليك .. إنت لحقت .. النهاردة طول اليوم كنا مع بعض .
ضحك وحيد وقال :
_ خلاص بلاش وحشتيني .. مين قال وحشتيني ؟ عاملة إيه بئى ؟
_ الحمد لله .. و إنت ؟
_ تمام ذاكرتي ؟
_ أه ذاكرت شوية .. و بعدين قمت عشان أعمل بيتزا .
_ بالهنا و الشفا .. أنا بئى كنت ببص للقمر دلوقتي عشان أشوف فيه أجمل ابتسامة لأجمل و أرق إنسانة قابلتها في حياتي .
ضحكت نهلة و هي لا تدري كيف ترد ؟ فاكتفت بأن تخبره :
_ أنا كمان بحب القمر خاصةً لما بيكون بدر بيديني تفاؤل كبير أوي .. و دلوقتي بحبه أكتر عشان بشوفك فيه كل ما أبصله .
_ اللــــــــــــــــه على الكلام الحلو .. بجد كدة مش أده .
ضحكت نهلة فبادرها قائلاً :
_ المهم لازم تذاكري كويس دي آخر سنة ليكِ ..
_ إن شاء الله .. أنا كمان عايزة أخلصها علشان بئالي ست سنين بدرس ..
_ ليه ستة ؟ إنتي في آداب ؟
_ مانا كنت في هندسة الأول قعدت فيها سنتين و بعدين حولت ..
_ أنا كمان كنت في هندسة الأول ، و أدهم صاحبي من أيامها بس حولت آداب مسرح عشان بعشق المسرح .. حتى دي كمان طلعتي شبهي فيها ؟
ضحكت نهلة بينما قال لها وحيد حينما سمع صوت جرس باب شقته :
_ استني يا نهلة جرس الباب بيرن ، ثواني حشوف مين ؟
ذهب وحيد ليتفقد الباب و يرى من حضر إليه ؟ حينما سمعت نهلة صوت أبيها ينادي عليها فردت قائلة :
_ حاضر يا بابا جاية .
سمعت وحيد يبادرها معتذراً :
_ آسف يا نهلة ، مضطر أقفل أدهم جه .
_ لا أبداً ، أنا كمان مضطرة أقفل علشان بابا عايزني .. سلملي على أدهم .
_ حاضر يا حبيبتي ؛ بحبــــــك .
ابتسمت نهلة و قالت :
_ و أنا كمان .
فرد عليها مداعباً :
_ إنتي كمان إيه ؟
ردت عليه بخجل واضح :
_ إنت عارف .. يلا سلام يا حضرة المخرج .
ضحك وحيد و رد متوعداً إياها :
_ كدة ؟ طيب لما أشوفك بكرة بس .
أغلقت نهلة هاتفها الخلوي ثم خرجت من غرفتها سعيدة تضيء الابتسامة وجهها لأنها أخيراً وجدت حبها الذي أخرجها من روتين حياتها المملة بعيداً عن ضغوط أهلها للزواج لأنها تعدت الثانية و العشرين و كأنها تعدت سن الزواج !
تطلع أدهم إلى وحيد مستفسراً :
_ كنت بتكلم مين ؟
_ نهلة .. بتسلم عليك على فكرة .
_ الله يسلمك و يسلمها .. واضح إن الموضوع دخل في الجد .. أخيراً وقعت يا صديقي العزيز .
ضحك وحيد ثم قال بقليل من الأسى :
_ يا ريت يدخل في الجد فعلاً يا أدهم ، بس للأسف مش حينفع .
تعجب أدهم قليلاً ثم قال :
_ ليه يا وحيد ؟ أولاً إنت مخرج مسرحي و قدامك مستقبل كبير بإذن الله ، و بتشتغل في الإذاعة و التليفزيون و أهلك نفسهم يفرحوا بيك .. يبئى إيه المشكلة ؟
_ أنا لسا قدامي مشوار طويل يا أدهم ، عندي أحلام كتير و طموحات أكتر مش عايز أرتبط بحد غير لما أحققها .
زمّ أدهم شفتيه غير راضِ عن تفكير صديقه و حديثه بينما قال له وحيد ممسكاً بهاتفه الخلوي :
_ فكرتني .. عايز أكلم ماما و بابا في مصر أطمنهم عليا و أحاول أقنعهم يجوا إسكندرية شوية ..
صمت أدهم منتظراً إتمام المكالمة حينما أغلق وحيد هاتفه و قال :
_ موبايل بابا غير متاح ؛ أبئى أكلمهم بعدين .. قولي مشيت ليه النهاردة بدري ؟
_ يعني كان في شغل عندي في المكتب قلت أخلصه و أجي أقعد معاك شوية قبل ما أروح .
_ كويس .. خلينا ندردش شوية .. تشرب إيه ؟ و لا أجيبلك عشا ؟
جلست نهى بغرفتها تطالع بعض الكتب الدراسية مرتدية نظارتها الطبية تحاول جمع شتات أفكارها لكن دون جدوى ، فهي منذ علمها بخبر زواج أبيها و هي حزينة لا تستطيع أن تفقه شيئاً ، فهي تفكر في حالها .. كيف كانت ؟ و إلام صارت ؟ منذ بضعة أسابيع فقط كانت بجوار والدتها و والدها أما الآن فلقد كتب عليها أن تعيش محرومة منهم معاً ، نفضت غبار أفكارها السوداء عن رأسها محاولة ان تفكر بشكل إيجابي أكثر ، فلقد فاتها الكثير من المحاضرات بسبب انشغالها مع والدتها بالمستشفى أيام المرض ثم لوفاتها و الآن هل تترك مذاكرتها بسبب قرار زواج أبيها ؟! لا .. لن تسمح بذلك ، لقد وضعت نصب عينيها هدفاً و لن يساعدها أحد إن فشلت في تحقيقه بل لن يلام أحد على ذلك الفشل إلا هي ، لذا فقد أمسكت بذلك الكتاب الذي يجمع بين أشعار و نثريات إنجليزية بالعصر الحديث و بدات بقراءته بتروي حتى تعي دراستهم جيداً ، و بعد مرور بعض الوقت سمعت باب الشقة يفتح فخمنت أنه والدها ؛ فرسمت ابتسامة على وجهها لتحضر نفسها لأداء ذالك الدور الذي قررته الذي يجعلها تشعر بالرثاء على نفسها .
خرجت من غرفتها فلم تجد أبيها بالصالة فاتجهت لغرفته حيث كان واقفاً أمام خزانة ملابسه ليخرج منامته فبادرته قائلة :
_ إنت جيت يا بابا ؟
فرد عليها :
_ أيوة يا نهى .. عايزة حاجة ؟
_ سلامتك .. أعملك شاي ؟
_ يا ريت .
خرجت نهى و اتجهت إلى المطبخ تعد الشاي حينما دلف والدها لغرفة الجلوس فلحقت به حاملة أكواب الشاي و بعض البسكويت ثم جلست واضعة أمامه كوبه فرشف منه رشفة حينما قالت له :
_ مبروك .
نظر لها متعجباً آسفاً في آن واحد ثم قال :
_ كمال قالك ؟
_ آه .. بس مش كنت تعرفني كنت اختارتلك أنا العروسة .
ثم ضحكت فابتسم لها بحنان و قال :
_ هي إنسانة محترمة و كويسة و مش بتخلف يا نهى ، مش عايزك تشيلي همي هي حتشيل همي و مسؤليتي و إنتي بكرة ربنا يكرمك بابن الحلال و يشاركك حياتك .
_ إن شاء الله .
_ إوعي تفتكري إني حسيبك يا نهى أو حتخلى عنك .. عمري ما حعمل كدة ، صدقيني و بكرة تشوفي .
ابتسمت نهى و قالت :
_ عارفة يا بابا ؛ ماتقلقش عليا .. أهم حاجة رضاك و راحتك
ثم وقفت تقبله فوق جبينه و تربت على كتفه ثم تركته لتواصل مذاكرتها ، و حينما دلفت إلى غرفتها لم تستطع أن تمنع تلك الدمعة التي ذرفتها قائلة في نفسها :
_ الله يرحمك يا ماما ...
يتبع بالفصل الخامس