تصاعد صوت نجاة الحنون الحزين من الحاسب الآلي بغرفة نهى بينما كانت تتمدد فوق سريرها تنظر إلى سقف الغرفة تفكر ف المجهول و تتطلع إلى اللا شيء ، كانت غرفتها الوردية مضيئة بضوء خافت يتوسطها سرير صغير وُضِع أعلاه صورة تُدعى ( هي ) ، كانت نهى قد حصلت عليها كهدية مجانية مع إحدى أعداد مجلة هو و هي ، و لقد أُعجبت جداً بالصورة التي تعبر عن المرأة في كل زمان و كل مكان .. المرأة بشتى أحوالها .. سفيرة .. وزيرة .. طبيبة .. أو حتى فلاحة بسيطة ، و ما أعجبها أكثر كانت تلك الكلمات التي خُطَت تحت الصورة لتكرم هي لتكرم حواء على مر العصور ..
و يقابل السرير بالجدار الآخر للغرفة مكتب صغير تراصت فوقه تلك الكتب القديمة التي عشقتها نهى منذ الصغر ، بجوار الكتب كان مكان الحاسب الآلي المتصل بالعديد من الأسلاك و بآخر الغرفة كانت خزانة الملابس بجوار طاولة الزينة التي وُضِعت فوقها زجاجات العطر و أدوات الزينة المختلفة .
بدأت نهى تفكر في أحوالها و تفكر كيف كانت ؟ و إلام صارت ؟ لقد تغيرت أحوالها كثيراً ، فهي لم تعد هي ، لم تعد تلك الفتاة التي كانت تعرفها . و لا يعد ذلك التغير لتغير ظروفها فقط بل يعد أيضاً لذلك المجتمع التي تحيا به ، ذلك المجتمع المتخلف بكافة صوره من عادات و تقاليد غريبة و من ناس تهوى الفضول و تتطفل على الغير ، مجتمع لا يساعد الإنسان على تقبل ظروفه و التغلب عليها بل يدفعه للتمرد عليها و ربما يدفعه لحافة الجنون أو الانتحار ! لقد تقبلت نهى فكرة فراق أمها ثم تقبلت فكرة زواج أبيها لكن يبدو أن الناس لا تتقبل ذلك بسهولة ، فهي إن خرجت لتقابل إحدى الصديقات لا تخلص من تلك الأسئلة المتطفلة .. كيف تعيشين ؟ من ينفق عليكِ ؟ أتنامين وحدك ؟ ألا تخافين النوم وحدك ؟
و إن جلست بأحد مجالس العائلة كانت مصدر الشفقة و مسار حكايات الكبار ، و إن سارت بالشارع لا تسلم من دعوات الجيران لأمها بالرحمة و الغفران أو الدعوة لها بالزواج و الستر و كأن الزواج هو الحل الأمثل لما تمر به ، و هذا بالطبع إن لم يلقها أحدهم بنظرة فضول ليستكشف أين كانت ؟ و مع من ؟ و كأنها أصبحت حرة تفعل ما تشاء وقتما شاءت دون ظابط أو رابط و كأنها فقدت أخلاقها ، حتى أنها حينما علمت بمشاجرة محمد مع أميرة بسبب المسرح و الاختلاط شكت في محمد نفسه ، شكت في أن يكون خائف على أميرة منها و من ظروفها التي ربما تدفعها للخطأ .
و هي إن مكثت بمنزلها ترى الحزن بعينيَ أخيها خاصةً حينما يقدم إليها ليلاً فيجدها غارقة بالنوم بغرفتها فيتنهد بحزن لحالها ثم يتركها و يصعد لشقته حتى لا يؤرقها على اعتبار أنها نائمة ، لكنها لم تعد تنام ، حتى النوم أعلن غضبه عليها و بات يجافيها فلم تعد تنام ليلاً ، لا تنام إلا بعد بزوغ الفجر أو عند السابعة صباحاً ، و إن نامت ترى أفظع أنواع الكوابيس المخيفة ؛ ربما ترى أشباح غريبة أو ثعابين تحوم بمنزلها ؛ و ربما ترى كلاب مسعورة و ذئاب موحشة تعترض طريقها ، و ما كان يخيفها أكثر هو عدم مساعدة أحد إليها ، لا يلبي أحد نداءها و لا يعونها أحد بأحلامها حتى أقرب الناس إليها لذا فقد باتت تشعر بالخوف و عدم الأمان ، لم تعد تثق بأحد و باتت ترى جميع الناس وحوش لا يساعد بعضهم البعض و لا يرضون غير رغباتهم و أنفسهم حتى باتت حياتها نفسها كابوس كبير .
أفاقت نهى من شرودها على جرس هاتفها الخلوي فتناولته لتعرف من يتصل بها فوجدتها نهلة فأوقفت تشغيل الأغنية ثم ردت على صديقتها بلهفة :
_ نهلة .. حبيبتي .. وحشتيني أوي .
بادلتها نهلة نفس اللهفة فأجابت :
_ نهى .. حبيبتي .. إنتي كمان وحشتيني .. عاملة إيه ؟
_ الحمد لله تمام .. حتيجي إمتى ؟
_ بكرة إن شاء الله .. مش سامعة صوت حاجة ؟
_ آه .. سامعة ؛ صوت البحر .
_ مش عايزة تقوليله حاجة بردو و لا أقوله أنا ؟
_ حتقوليله إيه ؟
تنهدت نهلة ثم قالت بعطف جاد :
_ حقوله نهى دي قلبها كبير أوي أوي و تستاهل حب كبير أوي أوي أوي .
ضحكت نهى فبادلتها نهلة الضحك فسألتها نهى :
_ أخبار وحيد إيه ؟
تنهدت نهلة بحزن ثم قالت :
_ معرفش .
تعجبت نهى فسألتها :
_ إزاي ؟ مش بتكلموا بعض ؟
_ لا كلمني مرة و بعدها ما اتكلمناش موبايله مغلق .
زمت نهى شفتيها فضحكت نهلة لتطمئن صديقتها ثم سألتها تداعبها :
_ ما رحتيش المكتبة ؟
_ لأ .. ليه ؟
ردت نهلة بخبث واضح :
_ أصل سامي وحشني أوي بصراحة .
ردت نهى بجدية :
_ بلاش لف و دوران .
_ يعني ما وحشكيش ؟
_ لأ ؛ عادي . و بعدين إنتي ليه متخيلة إن في حاجة ؟ لو كان في كان على الأقل اتكلم .
_ يتكلم إزاي و إنتي بتعامليه كدة .
_ أنا مش عارفة هو عايز مني إيه ؟ لو كان بيحبني كان قاللي . يسيبني في حالي أحسن يعني أنا واحدة يتيمة و وحيدة و الدنيا ملطشة معايا مش ناقصاه هو كمان .
_ ما تقوليش على نفسك كدة يا نهى ، إنتي مش كدة .
_ لأ يا نهلة أنا كدة ، هي دي الحقيقة و إنتم عارفين كدة كويس .
_ محدش بيحس بالمميزات اللي عنده .
_ لا يا نهلة ؛ أنا عارفة مميزاتي كويس أوي .
صمتت نهلة قليلاً ثم سألت صديقتها :
_ نهى إنتي مش خايفة من الوحدة ؟
_ يمكن دلوقتي مش حاسة بيها عشان الدراسة و عشان إنتم ف حياتي ، لكن أحياناً بحس إني حخاف منها ف المستقبل أوي .
_ ليه ؟
_ يعني كل واحد حيشق طريقه بعيد عن التاني ، أميرة إن شاء الله حتتجوز ، و إنتي ربنا يوفقك و تتجوزي وحيد و سالي يكون ربنا رزقها بحد كويس إنما أنا ...
قاطعتها نهلة بسرعة :
_ ده على أساس إن حضرتك اللي حتعنسي فينا يعني و لا إيه .
ضحكت نهى فبادلتها نهلة الضحك و أنهيا المكالمة على وعد بأن يتقابلا بأول أيام العام الثاني بالكلية .
أعطت سالي والدتها الدواء ثم قامت بتغطيتها بالبطانية حتى تنام و ترتاح قليلاً ، و بعد أن اطمئنت عليها خرجت و أغلقت باب الغرفة وراءها بهدوء فترامى إلى أذنيها صوت جرس الهاتف فدلفت إلى غرفتها لترد فوجدت المتصل أدهم ..
_ إزيك يا سالي ؟
_ الحمد لله يا أدهم .. إزيك إنت ؟
_ تمام .. مامتك عاملة إيه دلوقت ؟
_ الحمد لله أحسن و الله .
_ هي خرجت من المستشفى ؟
_ آه من يومين كدة .
_ طب حمدالله على سلامتها ، و إنتي كويسة ؟
_ آه و الله الحمد لله ، إنت عامل إيه و وحيد أخباره إيه ؟
اضطرب أدهم قليلاً فتعجبت سالي لكنها أذاحت الفكرة من رأسها حينما سمعته يقول :
_ الحمد لله يا سالي ، يلا عايزة حاجة ؟
أنهت سالي حديثها مع أدهم فخرجت من غرفتها ثم اتجهت للمطبخ لتعد طعام الغداء ..
تطلع أدهم إلى وحيد بغرفة منزله حانقاً و قال :
_ إزاي يعني حتسافر ؟
_ إنت عارف يا أدهم إني بحلم بالبعثة دي من زمان ، و طول عمري نفسي أدرس في باريس .
_ طيب و نهلة ؟
أطرق وحيد رأسه حزيناً شارداً دون رد بينما سأله أدهم :
_ طيب حتى إخطبها قبل ما تسافر ؟
_ ما ينفعش ، إنت ناسي إني حسافر كمان إسبوع ده غير إن البعثة تلات سنين ؟
_ يعني إيه ؟
_ مش عارف .
_ طيب حتقولها ؟
_أكيد ، لازم أشوفها قبل ما أسافر .
_ آه طبعاً ، ما هو أهم حاجة مصلحتك .
ثم هب أدهم واقفاً ليغادر صديقه غاضباً دون حتى أن يصافحه .
وقفت نهى أمام المرآة تضع بعض من كريم البشرة على وجهها حينما دلفت إليها سلمى بسرعة ترتسم على وجهها ملامح الجدية لتقول :
_ نهى .. أنا عايزاكي .
أدارت نهى وجهها لسلمى ثم أخذت بودي منها و جلست على السرير فجلست سلمى بمقابلتها و قالت :
_ سهام بنت خالتي جايبالك عريس .
نظرت نهى إليها بنظرة ذات مغزى فهمتها سلمى على الفور فأسرعت تقول :
_ إصبري بس شوفي مواصفاته .. و بعدين بصراحة سهام بتشكر فيه أوي .
_ هي تعرفه ؟
_ آه صاحب أخوها ، محاسب في السعودية و عنده حوالي 29 سنة .
_ يعني حياخدني معاه السعودية ؟
_ آه
لمعت عينا نهى بالفكرة و قالت ل سلمى بتصميم :
_ أوكي ، أنا موافقة يا سلمى .
يتبع بالفصل السابع