صعدت درج البناية و خفقات قلبها تزداد بشدة حتى وصلت إلى شقته فسجلت إسمها و جلست ترقب دورها ..
لكنها تعجبت قليلاً حيث كانت العيادة النفسية مناقضة للصورة التي كانت بخيالها ، لقد صورها لها إحسان عبد القدوس من خلال الروايات كمكان هاديء غير مزدحم بالمرضى ؛ لأن المرضى النفسيين قلة ربما يقتصرون على الجميلات اللائي يرتادن مثل هذه العيادات مثلما يذهبن للكوافير أو لطبيب الأسنان أو للتسوق ، لكن ما رأته نهى زاد من همها هماً حتى أنها شعرت أن الطبيب ربما يستخف بها من هول ما يراه و لن تغضب منه إن فعل فهي نفسها استخفت من نفسها حينما رأت ما رأت ..
رأت أطفال مرضى يُعالجون من كهرباء زائدة بالمخ و كان أحدهم مصاب بالتخلف العقلي فجلست أمه حزينة راضية بقدرها ، كانت تقص لها ما تراه من أهوال على يد إبنها المريض و على يد أخته الصغرى المصابة بنفس المرض و كيف أنها لا تشعر بحياة زوجية و لا تستطيع أن تتخلص من ذلك الصداع الذي يصيب رأسها جراء ما يحدث لها من مشاق على أيدي أبنائها ، تعجبت نهى من نفسها لأنها شعرت بالعطف تجاه الطفل و أمه ؛ فهي التي تهرب من الشفقة و الرثاء بأعين الناس تجلس الآن و يملأها الرثاء تجاه تلك المرأة ، جلست نهى تتطلع للمرضى بأعين حزينة و نفس مقهورة بينما تصاعدت صرخات امرأة من حجرة الطبيب لتعاطيها جلسات كهرباء على ساقيها ، أرادت نهى أن تنهض و تهرول بعيداً عن ذلك المكان الذي أشعرها بمدى تفاهتها لكنها من هول ما رأت لم تكن تملك طاقة لتنهض .
انصرف جميع المرضى فخرج إليها الطبيب فنهضت لتقف بمواجهته فوجدته ينظر إليها و يتفحصها من تحت منظاره الطبي بدقة ؛ و كأنه يستشف ما بها أو يقرأ أفكارها فابتسمت له بهدوء حينما حياها ثم دلفا إلى حجرته معاً .
جلست نهى بمقابلته فبدأ بسؤالها عن إسمها و دراستها و سنها ثم سألها :
_ خير يا نهى بتشتكي من إيه ؟
_ مش بنام خالص يا دكتور عندي أرق فظيع و صداع دايما بيجيلي .
صمت الطبيب قليلاً ثم قال مفكراً :
_ مش بتنامي يعني أرق يعني بيجيلك الصداع من الأرق .. ثم نظر إليها يسألها :
_ مش بتنامي ليه بئى يا نهى ؟ أكيد بتفكري ف حاجة ؟
ضحكت نهى لأنها أدركت مغزى سؤاله فقالت :
_ مش بفكر في حاجة و الله .
_ طيب إنتي عاملة إيه في دراستك ؟
_ تمام الحمد لله ده أنا حتى بحبها جداً .
_ طيب و ظروفكم في البيت ؟
_ يعني كان في شوية لغبطة في البيت الفترة اللي فاتت بس الحمد لله عدت على خير .
_ إزاي ؟
_ يعني والدتي توفت و بابا اتجوز و حالياً أنا أُعتبر قاعدة لوحدي .
_ إزاي ؟ والدتك توفت إمتى ؟
_ من حوالي سبع شهور كدة .
_ و والدك اتجوز إمتى ؟
_ بعد وفاتها بأقل من شهرين .
أدرك الطبيب مغزى حديثها فقال بخبث واضح ليرى رد فعلها :
_ يا ساتر .
فنظرت له نهى تؤكد كلامه ثم أدركت أنها وقعت في الفخ حيث أكدت بفعلها هذا مدى غضبها و ضيقها من زواج والدها بالرغم من اقتناعها في قرارة نفسها بمدى أحقية والدها بذلك .
صمت الطبيب قليلاً ثم قال لها :
_ أكيد بتفكري في كدة ؟
_ يمكن .
_ طيب ليه ما أخدتيش الحل الأسهل و وافقتي إنه يتجوز معاكي ؟
_ لا .. محبتش الفكرة دي .
_ بس دي كانت حتبئى في صالحك يمكن كانت ساعدتك في الغسيل و الأكل و كدة ؟
ردت نهى بتصميم واضح :
_ لا .. أنا أقدر أغسل لنفسي كويس أوي .
شعر الطبيب أنه لا مفر من الحديث مع نهى و مجادلتها في تلك النقطة فقال لها :
_ أكيد الموضوع ده اللي بيسبب لك أرق و قلة النوم بتعملك صداع .
_ ممكن ، طب و الكوابيس ؟
_ أكيد يا نهى من نومك لوحدك ، أنا شخصياً لو نمت لوحدي أكيد حيجيلي كوابيس و أخاف .
_ صح .
_ حاولي تنظمي نومك .. ثم وقف و دار حول مكتبه و أخرج لها بعض الأدوية فأدركت نهى أنها مواد منومة ففكرت في نفسها أنها من المستحيل أن تتعاطى أية مواد منومة ، عاد الطبيب إلى مكتبه ثم قال لها :
_ بنتي إيمان بردو زيك كدة مش بتنام و بتقعد على النت كتير فبقولها تحاول تنظم نومها ، هي في سنك تقريباً متهيألي تعرفيها ؟
_ أه أعرفها .
_ بجد ؟
_ اه .. كانت زميلتي في ثانوي .
_ أه ؛ طيب أنا عايزك تاخدي من البرشام ده كل يوم حباية و تشتري العلاج اللي في الروشتة .
_ حاضر .
_ و يا ريت تيجي كمان إسبوعين و تقوليلي عملتي إيه ؟
وقفت نهى و قالت :
_ إن شاء الله .
ثم اتجهت تجاه الباب لتخرج فوجدته يقول لها :
_ طيب علشان خاطر إيمان خدي بئى فلوس الكشف ، ثم أخرج بعض النقود من محفظته فرفضت نهى بشدة و قالت :
_ لأ .. متشكرة أوي .
خرجت نهى و هي مصممة ألا تعود إليه مرة آخرى ، فهي التي تهرب من نظرات الشفقة و تتعذب من كلام الناس جاءت إليه يداويها فوجدته هو الآخر ينظر إليها بشفقة و يريد أن يعطيها نقودها مرة آخرى ! لا .. لن تعود .. يبدو أن علاجها بيديها هي فقط دون مساعدة أحد .
مرت الأيام على نهلة بسرعة شديدة بالرغم من أحداثها الكثيرة ؛ حيث قدم إليها العريس و رأته و جلست معه فوجدته عذب اللسان يحبها حباً شديداً من مدة طويلة ، أخبرها أنه كان يراقبها حينما كانت تسير برفقة أخواتها أو صديقاتها بالشارع و أنه لطالما تمناها و تمنى أن تكون زوجته التي تشاركه حياته القادمة ، كان يمكن لنهلة أن تسعد بذلك الكلام في ظروف آخرى لكنها لا تستطيع أن تفرح بكلامه الآن لأنها تعلم جيداً أن قلبها ما زال معلقاً بوحيد ، وافقت نهلة على الخطبة و هي تشعر بخيانتها لوحيد لكنها كانت تعلم أن زواجها هو الحل الأمثل لتنسى وحيد خاصةً حينما يكون العريس مثل محمود ، إنسان رقيق المشاعر طيب القلب حسن الأخلاق و تتمناه أي فتاة .
مضت الأيام على نهلة بسرعة و هي تعد نفسها للخطوبة ، تم تقسيم الأعمال بينها و بين صديقاتها ، حيث تولت أميرة مهمة الزينة و تزيين منزلهم و إعداده لحفل الخطبة بينما تولت سالي تطريز فستان الحفل و إعداده ، بينما خرجت معها نهى لشراء أدوات الزينة التي تحتاجها نهلة من طلاء للأظافر و كريمات للجلد و قناعات البشرة المختلفة ،و خرجت أيضاً برفقة محمود لاقتناء الشبكة من محلات الدهب فكان لطيفاً معها مبدياً رغبته في إسعادها بشراء كل ما تريد ، و أثناء خروجهم تركها مع أختها ليحضر لهم بعض زجاجات الكوكاكولا فلفت نظر نهلة معرض لبيع التحف و الزهريات القديمة التي لطالما عشقها وحيد مثلما أخبرها من قبل ؛ فوقفت أمام المحل شاردة تتذكر وحيد و أحاديثه الممتعة فغرقت عيناها بالدموع دون أن تدري ، مسحت دموعها بسرعة حتى لا يراها محمود و بالفعل حينما عاد إليهما سألها :
_ إنتي كويسة ؟
رسمت نهلة ابتسامة مصطنعة و قالت له :
_ أه .. الحمد لله .. جبت الكوكاكولا ؟
بدا و كأنه لم يقتنع بحديثها فسألها :
_ في حاجة عجباكي في المحل هنا ؟
_ لا .. عادي بتفرج بس ..
قالت له ذلك بالرغم من إعجابها ببلورة زجاجية صغيرة تدور بها المياه حينما تُرَج جيداً و بمنتصفها يقف عريس بجوار عروسته كما أنها يمكن أن تضيء بألوان رائعة حينما تقوم بالضغط على زر صغير يوجد بأسفلها ، لكنها لم ترد إخباره بذلك حتى لا يشتريها لها فيتحمل تكلفتها .
كان اليوم يمر على نهلة بسرعة فتنام آخر الليل دون أن تفكر في صحة قرارها أو خطأه بالرغم من وعيها التام بأنها تظلم محمود و ربما تظلم نفسها !
و بيوم الخطبة تجمع الأهل و الأقارب و الأصدقاء بمنزل نهلة حتى أن فريق المسرح بالكلية حضر ، كان الجميع سعيداً لأجلهم إلا صديقاتها ، لم تكن تعلم نهى هل تفرح لها ؟ أم تشفق عليها ؟ أم تشفق عليه هو ؟ لم تستطع نهى أن تفعل شيئاً سوى أن تتمنى لها الخير و السعادة داعية الله أن يرزقها حب محمود حيث التمست نهى حبه و صدق مشاعره تجاه نهلة ، أما أميرة وقفت حزينة أثناء تصاعد النغمات الهادئة التي وقفت نهلة ترقص عليها برفقة محمود ؛ حيث تذكرت يوم خطبتها على محمد ، و كيف أنها وقفت ترقص معه بسعادة شديدة لم تشعر بمثلها من قبل ، بينما وقفت سالي شاردة بسبب قدوم أيمن لحفل الخطبة برفقة فتاة جميلة في مثل سنها تقريباً عرفت فيما بعد أنها إبنة عمه دون أن يصافحها حتى و كأنه لا يعرفها ، اقتربت راضية من سالي و قالت لها :
_ مش تباركي لأيمن يا سالي ؟
رسمت سالي ابتسامة هادئة محاولة أن تحتفظ بهدوءها فقالت :
_ خير ؟ على إيه ؟
_ أيمن حيخطب ..
سقط قلب سالي بقدميها و انتفضت من هول المفاجأة بينما استطردت راضية تقول :
_ بنت عمه اللي واقفة هناك معاه ، بس إوعي تقولي يا سالي ده سر .
تركتها سالي دون رد لأنها تعلم جيداً أن راضية تقول ذلك لتثير حنقها بينما هي نفسها مستاءة بشدة لأنها لطالما غارت على أيمن منها و كانت متأكدة من مشاعر راضية تجاه أيمن لكنها لم تبالِ بها مطلقاً ، ثم تركت الحفل دون حتى أن تودع صديقاتها ثم خرجت تهرول من المنزل و عند باب المنزل التقت بأدهم وجهاً لوجه ، نظر إليها متعجباً لخروجها ببيداية الخطبة ثم لاحظ دموعها فنظر لها برفق و اقترب منها متسائلاً :
_ سالي .. مالك ؟ في إيه ؟
نظرت له بغضب قائلة :
_ مالكش دعوة بيا ، محدش له دعوة بيا .
ثم تركته و غادرت المنزل فلحق بها أيمن يناديها بينما وقف أدهم على مقربة منهم ليفهم ما يدور ، تطلع أيمن إليها بخجل و قال :
_ سالي .. أنا بجد آسف .
ردت عليه بثبات بالرغم من قلبها المنفطر بداخلها و كرامتها الجريحة :
_ آسف ؟ ليه ؟
_ صدقيني يا سالي .. أنا حاولت أقنع بابا بخطوبتنا بس هو صمم على بنت عمي و قالي يا بنت عمك يا إما مفيش شغل في شركتي بعد التخرج .
_ ما تحاولش تقدم مبررات مش مقنعة يا أيمن ، ما تضحكش على نفسك ، إنت جاي تحاول ترضي ضميرك بكلمتين فاكرني هبلة و حصدقك زي ما صدقتك قبل كدة ، بس إسمعني أنا اللي حريحك .. إنت ماحبتنيش أصلاً .. إنت فرحت باللعبة اللي في إيدك على اعتبار إني بحبك بس اطمن أنا مش بحبك .
تعجب أيمن من إسلوبها لكنه لم يصدقها ، فغروره أخبره أنها تقول له ذلك الكلام لتحفظ ماء وجهها و كأنها أدركت ما يدور بعقله فقالت له :
_ إوعى تفتكر إني بقولك كدة عشان أحافظ على كرامتي ، لا .. تأكد إني ماحبتكش أصلاً ، بس أحياناً ضغط الأم على بنتها في موضوع الجواز لمجرد إنها تطمن عليها قبل ما تموت أو علشان تضمن مستقبلها بيخلي البنت تقبل أي حاجة و خلاص و تعمل أي حاجة حتى لو كانت ضد مبادئها .. و لازم تعرف إنك بفلوسك و إعجاب البنات بيك اللي بيجروا وراك ما تهمنيش في حاجة ، إنت كنت بالنسبة لي مجرد عريس
مناسب و بس ..
و قبل أن تكمل حديثها رفع أيمن يديه ليصفعها على وجهها لكن يد أدهم أمسكت بيده قبل أن تلمس وجهها ، وقفت سالي هنية من الزمن غير مدركة لما قالت أو لما حدث ، بينما نظر أيمن إلى أدهم شزراً فقال له أدهم بثبات :
_ أرجوك يا أيمن .. كفاية لحد كدة ، اتفضل إدخل شوف خطيبتك و سيب سالي دلوقت .
نظر أيمن إلى سالي بضيق ثم انصرف ، نظرت سالي إلى أدهم لا تعرف ما تقول بينما كان يتطلع إليها بثبات و ينظر لعينيها يفحصها كأنه يريد أن يتأكد من صدق ما قالت منذ قليل فقالت له :
_ إنت واقف هنا من إمتى ؟
لم يجبها لكنه أمسك بمرفقها و سار بها تجاه سيارته ثم فتح بابها لها و قال :
_ اتفضلي .
دلفت سالي إلى السيارة دون أن تعرف لماذا تستجيب إلى حديثه هكذا ؟ .. انطلقت بهما السيارة دون أن يتحدث أدهم و دون أن تنطق سالي ببنت شفة ..
يتبع بالفصل التاسع ..