كانت رحلة من ضمن رحلات الصيد العديدة ولكنها لم تكن مثل أي رحلة . . لقد كانت رحلة مشئومة ومليئة بالدموع والحزن والجراح الأليمة والتى جعلتنى أفكر في أن أبتعد عن الصيد مدى الحياة .
كنت أنا وأعز صديق لي نصطاد في موسم طيور العنز الأبيض الكبيرة ، وسافرنا إلى مكان بعيد للصيد حيث تكثر هذه الطيور وتتواجد مع بعضها البعض في مكان واحد في بداية هجرتها ، وبدأنا الصيد فعلاً واصطدنا والحمد لله ورضينا بما قسمه الله لنا ، وسرنا في طريقنا للعودة إلى بيوتنا وكانت المسافة بيننا وبين الطريق السريع حيث نزلنا من السيارة الأجرة حوالى 10 كيلو مترات ، ونحن في طريقنا رأينا بعض المزارع على يسارنا وكان الطريق دائرياً ففكَرنا فى أن نختصر الطريق ونمشي وسط هذه المزارع ، وليتنا لم نفكر في هذه الفكرة أبداً . . لم نكن نعلم ما الذى ينتظرنا ، لم أرى في حياتي أبداً أمام عيني ذل وظلم تعدى الحدود مثل الذى رأيته في هذا الطريق لقد كان بحق " طريق العذاب " . . سرنا بجوار مزرعة بها أشجار كبيرة مليئة بثمار المانجو ، كانت الثمار خضراء وكبيرة ورائحتها تثير المَار على الطريق ، قال صديقي هيا نقطف ثمرتين لنأكلهم . . فقلت له حرام يا صديقي وهذا ليس من حقنا وأخبرته بأننا سوف نبيع الطيور وبثمنها نشتري كل ما نريد ، ولكنه أصَر وقال لي وهل سأنتظر حتى نبيع الطيور وما أدرانى إن كنت سأعيش إلى أن نبيعها . . فقلت له يا صديقي أنت مدرك أنك ليس لك في نفسك شئ وأنه من الممكن أن يتوفاك الله في أى وقت وبرغم ذلك تريد أن تأكل حرام . فقال لي هذا ليس محرماً فأنا جائع والثمار أمامي وثمرة واحدة أو ثمرتين من هذه المزرعة مثل نقطة مياه من البحر ، وذهب بالفعل وقطف ثمرتين كبيرتين وحاول أن يعطيني واحدة ولكنني كنت معتاداً على عدم تغيير مبادئي لأى سبب من الأسباب ، فأخذ يأكل فى ثمرة ووضع الأخرى فى جرابه ، ، ، وفجأة حدث ما لم يكن في الحسبان . . لقد وجدنا دراجات نارية عديدة قادمة من خلفنا بسرعة رهيبة واتجهوا نحونا وحاصرونا وكأنها حرب ، شعرت في هذا الوقت بأننا من المساكين الفلسطينيون وحاصرتنا إسرائيل فجأة ونحن على أرضها قاموا بتفتيشنا وأخرجوا من جراب صديقي ثمرة المانجو التى تسببت فى جحيماً لم يكن متوقعاً ولم يصدقه أي إنسان على وجه الأرض .
لقد أخذوا صديقي وضربوه ضرباً مبرحاً ولم يكتفوا بهذا بل قيدوه بالحبال على شجرة وتناوبوا ضربه مثل ضرب الكفار للعبيد . . لم أتحمل رؤية صديقي في هذا الموقف اللعين لقد كانوا يعذبونه ويجلدونه وكأنه جاسوس خائن لبلده ، أسرعت نحوه لكي أنقذه ففوجئت بالأسلحة النارية التى أشهرت فى وجهي وأنا أعزل فوقفت مكاني دون حراك ونظرت إلى صديقي ورأيت وجهه ينزف من كل مكان وملابسه تمزقت ورأيت دمعة واحدة تنزل من عينيه وهو ينظر إليَ . . شعرت بأنه يريد أن يقول لي إنقذني يا صديقي إنقذني من هذا العذاب ، قالوا لي هيا غادر من هنا وابتعد و انسي صديقك فهو سوف ينال عقاب فعلته ، فقلت لهم أنني لن أغادر إلا ومعي صديقي فنحن خرجنا سوياً وسوف نعود سوياً وهل كل ما فعلتموه به هذا ليس كافياً كعقاب على ثمرة من هذه المزرعة . . فردَوا علىَ قائلين أنت لم تر شيئاً بعد وأخذوا يضربونه بقوة وعنف ، كانوا يريدون أن يسمعوا منه كلمة توسل أو كلمة آه واحدة ولم ينطقها ولم يفعل شيئاً سوى أن دموعه كانت تفر من عينه يصاحبها الدم ، وبدأت أبكي بدموع قاسية حزناً على صديقي ، وأخذت أتوسل إليهم ليتركوه وذهبت على أحدهم وأمسكت بالعصا من يده فشدَها من يدي ودفعني للخلف وقال لي إبتعد وإلا قيدتك مثل صديقك . . . لأول مرة في حياتي أشعر بالذل والظلم والهوان وأنا داخل بلدي كنت أشعر بأن دموعي تحولت إلى دماء من شدة الحزن والأسى الذى لاقيته في هذا الوقت ، والأشرار لم يكتفوا بكل هذا فقد أحضروا قفصين من المانجو ووضعوهم أمام صديقي وهو مقيد وأخرج أحدهم ورقة بها " نبات مخدر " ووضعها في جراب صديقي وبينما كان يضعها في جرابه وكان قريباً منه فبصق صديقي فى وجهه فثار غضبهم وانهالوا عليه ضرباً مميتاً فأسرعت إليه ووقفت أمامه لكي أحميه وتحملت كل هذا الضرب الذي كان من الممكن أن يقتل صديقي ولمَا تعبوا من كثرة افترائهم في الضرب جلسوا ليستريحوا ووقفت أنا بجانب صديقي أواسيه وأمسح الدم من على عينه ووجهه وقلت له تحمل يا صديقي فالفرج قريب بإذن الله ، وفوجئت بأحدهم يقول للآخر هيا اتصل بالشرطة لكي تأتي لتقبض على هذا اللص تاجر المخدرات وأخرج تليفونه بالفعل لكي يتصل بالشرطة فذهبت إليه وتوسلت له وأخذت أبحث بينهم عن إنسان لا يزال بداخله ذرة من الضمير وقلت لهم هل ترضون بهذا على أخ صغير لكم وحتى لو كان مخطئاً أوليس هناك تسامح بين الناس . . لقد بدوا وكأنهم ينصتون لكلامي ، وكنت أتمنى من الله أن تلين قلوبهم ويتركوا صديقي . . وقاموا بمساومتي على المال وطلبوا مائة جنيهاً لكي يتركوه فأخرجت كل ما معي من مال وكان المبلغ تسعون جنيهاً فأخذوهم ولكن بعد معاناة وتحايل ،،، وأخيراً تركوني لكي أحل قيوده كان هذا بعد ثمان ساعات من التعذيب مروا وكأنهم ثمانية أشهر ، وبدأت بالفعل أحل قيود صديقي . كنت فرحاً لدرجة أنني كنت أبكي بصوت عال من شدة فرحتي ، وبمجرد أن انتزعت القيود التى في يديه سقط على الأرض ولم يكن قادراً على الوقوف على قدميه من شدة التعب والتعذيب ، وذهبت مسرعاً لكي أحضر له مياه فقد كان ظمآناً جداً ولم أجد شيئاً لأجلب له الماء فيه فجعلت من يدي إناءاً وجلبت له الماء وأسقيته ، وحاولت بعدها أن أساعده لكي ينهض ولكنني فشلت في هذا وحملته على يدي وعزمت على أن أسير به حتى نصل إلى الطريق السريع ، وأثناء سيري به كنت أنظر إليه وأنهمر في البكاء حزناً عليه فقد كان غير قادراً حتى على الكلام وكان يرتجف بقوة وكنت أرتجف معه ، وكان يحاول الكلام ولكنني لم أفهم من كلامه ولا حتى كلمة واحدة ، وبعد مسافة من سيري به على الطريق سمعت صوت دراجة نارية قادمة من خلفي . . لقد أتى أحدهم لمساعدتي ومساعدة صديقي وقال لي أنه كان غاضباً جداً لما يحدث ولكنه لم يكن قادراً على الكلام هو الآخر ، واصطحب صديقي فعلاً على دراجته وأكملت أنا الطريق سيراً على الأقدام حتى وصلت إلى نهاية الطريق بعد حوالي ساعة ، ووجدت صديقي يجلس وبجواره سائق الدراجة وبعد اطمئناني على صديقي تحدثت إلى سائق الدراجة قليلاً وعرفت منه أن هذا الذى حدث يتكرر كثيراً مع أي شخص يقترب من هذه الثمار وعرفت منه أيضاً أن هؤلاء الأشرار كلهم هاربين من الخدمة العسكرية ، وأثناء حديثنا توقفت سيارة نقل بجوارنا كان سائقها يسأل عن طريق معين لقد كان نفس الطريق الذى نريده فاستأذنته لكي أذهب معه أنا وصديقي فقال السائق بكل سرور ورأى صديقي وتأثر بحالته كثيراً وساعدني على صعوده إلى السيارة من الخلف ، وكانت السيارة مليئة بأقفاص المانجو وقال لنا السائق كلوا ما شئتم من خيرات الله ، وبعد أن غادرنا هذا المكان المشئوم بقليل أحضرت ثمرتين من المانجو وأعطيت لصديقي ثمرة فقال لي " والله لو لم يتبقى من فواكه الدنيا كلها غير هذه الفاكهة فلن أتناول أية فواكه بقية حياتي ! "
وبعد هذه الرحلة المشئومة كتبت هذه الكلمات . . .
الرحلة
****
الرحلة كانت طويلة
وآسينا فيها كتير
ومن أول ليلة
دقنا منها الويل
***
لو كنا نعرف إن العذاب مستنينا
كنا فضلنا مكانَا ولا رحنا ولا جينا
لكنه هو القدر واحنا مش بايدينا
غير إننا بنصيبنا رضينا
***
أوفى صديق شفته قصاد عيني بيتألم
وبيستغيث والدموع ف عنيه ولا قادر أتكلم
دي حكاية غريبة أوي
ويا ريت الكل منها يتعلم
***
راح فين الضمير
هو لسة فيه ناس معدومة الإحساس
دنيا فيها الشرير أمير
والطيبين بالذل عايشين كدا وخلاص
***
لكن بقولها بعلو صوتي
لكل ظالم مهما طغى لظلمه نهاية
وانا مش حسَلم ولو فيها موتي
يلا يا صاحبي دي هي البداية
يلا يا صاحبي دي هي البداية
********************
إلى اللقاء زملائي وزميلاتي فى الحلقة الثالثة . . . وهي حلقة الإنتقام
عندي سؤال واحد لمن قرأ هذه الحلقة وأرجوا الإجابة بصراحة
س1 – إذا كنت مكاني ووقع صديق لك فى مثل هذا المأزق فماذا كنت ستفعل . هل ستتركه أم ستصمد معه حتى تخلَصه ؟