أمي، أمي ،أين أنت ؟
تشفق على الطفلة الملتاعة تريد أمها تتبع الصوت فتدخل حجرة أخرى تجد تلك الطفلة التي لا تكاد تراها حتى تهدأ وترتمي في حضنها تربت على ظهر الطفلة تسألها في حيرة :
- أين أمك أيتها الصغيرة ؟
نظرت لها الطفلة تظن أنها تمازحها :
- "أمي ذهبت إلى السوق ."
تسمع خطوات في الردهة تحتضن الطفلة في خوف القد نسبت أمر ذلك النائم في الغرفة المجاورة تجده أمامها واقفا على الباب مرتديا منامته :
صباح الخير يا رندا ."
"
لا ترد وتنكمش في مكانها تنظر إلى الغريب مترقبة وعندما يحاول الاقتراب أكثر تصرخ في فزع :
ماذا تريد منى ؟
يبتعد عنها في ارتباك :
أمازلت غاضبة منى ؟اظنك تبالغين في رد فعلك كعادتك ."
"
تنظر له في توتر :
من أنت وما الذي افعله أنا هنا ؟
ينظر إليها هازئا :- "انك مخطوفة !"
تصرخ مستنجدة فيفزع لرد فعلها ويحاول تهدئتها دون جدوى ولا يدرى ماذا يفعل وفجأة تسقط بين يديه فاقدة الوعي .
تسير حافية على الرمال يبعثر الهواء شعرها في حنان وتتمايل على أنغام أمواجه في دلال وهناك تراه ينتظرها فتركض إليه تلقى بكفيها بين كفيه وتلتقي عيناه بعينيها فترتجف.. تذوب بين الرمال .
***
"حمدا لله على سلامتك ياراند ا ."
تنظر في حيرة إليه لا تدرى ما تقول تطبق شفتيها تحبس تساؤلاتها بينهما.
"بما ذا تشعرين يا مدام راندا ؟"
ان الطبيب يخاطبها أيضا بذلك الاسم انها لا تذكر هذا الاسم إذن ما هو اسمها تبحث في عقلها فلا تجده لا تدرى ماذا تقول تغمض عينيها وتغيب من جديد عنهم .
يطلب الطبيب من زوجها مغادرة الغرفة وفي الخارج :
أظن اننا بحاجة لاستشارة طبيب أمراض نفسية لأنه عضويا لا تشكو المدام من شيء .
يهز الرجل رأسه في استسلام .
لازال قرص الشمس لا يريد الرحيل لعله يريد ان يظل معها يتطفل عليهما في لقاءاهما فلأول مرة منذ سنوات يشهد مثل هذا الحب الخيالي على الأرض .لازالت كفها بين كفيه يلفهم صمت ابلغ من الكلام .
يدخل الدكتور محسن الى غرفة المريضة يجده جالسة في هدوء وان بدت الحيرة تطل من عينيها .
"مساء الخير .هل تستطيعين سماعي ."
تهز رأسها بالإيجاب
"هل تستطيعين الرد على بصوتك ؟"
تخرج الكلمة خافتة لكنها واضحة :
"نعم "
هذا ممتاز هل تعلمين من أكون ؟
"أظنك طبيب ."
هذا أيضا جيد هل تستطيعين أن تخبريني عن اسمك ؟"
تقلب بين صفحات عقلها تبحث عن إجابة لكن دون فائدة فتعاود الصمت تحتمي به .
ينظر إليها متفهما :
لا تعرفين اسمك .هل أنت متزوجه ؟"
"
تصمت من جديد وان أنبأتها الدبلة الذهبية التي تزين أحدى أصابع يده اليسرى بأنها متزوجة ,
يتأكد له الآن انها حالة فقدان ذاكرة غالبا هستيرية لان كل التحاليل الخاصة بالمريضة تثبت خلوها من اى مرض عقلي .
ينظر إليها إلى عينها مباشرة :
هل تثقين بي ؟"
أرادت ان تهز رأسها بالنفي لكن شيئا في لهجته الواثقة ونظرته العميقة جعلها تستسلم :
"نعم."
"إذن سترحلين الان مع ذلك الرجل الذي أتى بك إلى هنا وسأنتظرك في عيادتي. "
في ذلك المكان التي عرفت أنها تنتمي إليه وان لم ينتابه ذلك الشعور بل على العكس شعرت أن جدران البيت تضيق عليها تكاد أن تطبق على ضلوعها تحرمها أنفاسها ولم يخفف عنها سوى تلك الطفلة التي رق لها قلبها ربما لا تذكرها لكن قلبها يذكرها جيدا .
***
- "أنا وأنت كل الناس ..كل الوجود "
- "لكنى خائفة ."
- "خائفة وأنا معك ."
تسبل جفنيها وتنام مطمئنة بين كلماته الرقيقة.
***
في أول يوم للتجربة تستغرق رندا في نوم عميق ترتحل بعقلها إلى بعيد .
هاهي ترتدي فستانا ازرق طويل بأكمام قصيرة شعرها قصير وتجلس في شرفة المنزل وبين يديها ككتابها تستغرقها الرواية التي في يدها حتى إنها لا تسمع رنين جرس الباب ولا صوت أمها تطلب منها ان تفتح الباب ،أخيرا تنتبه وتسرع إلى الباب تفتحه يطالعها بوجهه الباسم :
مساء الخير هل احمد موجود ؟
تهز رأسها في خجل :
نعم .لحظة واحدة سأناديه ."
"
تدخل متعثرة في خطواتها تسأل نفسها من تراه هذا الشاب الوسيم إنها لم تره من قبل يزور أخوها .تتجه الىغرفتها وفي يدها نفس الرواية لكن هذه المرة لا تفهم اى كلمة مما تقرأ.
***
"بيت وصوت امرأة أظنها أمي وأخ اسمه احمد و...."وبترت عبارتها .
"هذا جيد جدا لكن هل هناك ما كنت تريدين أن تضيفيه "
ترددت لحظة :
نعم .وكان هناك شخص اشعر أن ملامحه محفورة في داخلي لكنى لا اذكر عنه شيئا محددا مجرد مقاطع صغيرة من لفاءات بيننا كأن بيني وبينه تاريخ طويل من الذكريات ."
هل يشبه الرجل الذي تعيشين معه الآن "
هل تقصد من تدعونه زوجي ؟لا أظن و إلا كنت عرفته .
ربما كان حب قديم أو ربما صديق من الماضي
تتركه على وعد بالعودة في الجلسة التالية .
***
تستيقظ وهى تصرخ تجد نفسها دون أن تشعر تركض إلى الردهة ثم إلى الصلة تفتح الباب توشك على الخروج تضاء أضواء الشقة بصورة مفاجأة يطالعها وجهه :
إلى أين تذهبين في هذا الوقت المتأخر"
تظلم الدنيا من جديد وتشعر بنفسها تهوى من جديد .
***
"أنا آسف ا.احمد لكنى أظن انك لم تكن واضح معي كمن البداية هناك ما أخفيته عنى أن عقلها يقاوم في شراسة هناك ما تريد أتناساه بشدة "
"ربما أخطأت عندما لم أخبرك، لكن أنا أحب زوجتي أحبها فعلا.. ربما أخطأت في حقها لكنى أحبها إنها حب عمري لكن المرء أحيانا يزهد ما يملك أو ربما هي الثقة في انه صار ملكه ربما ردت مجرد التجديد أو استعادة أيام لن تعود لكنى لم أحب سواها أبدا ."
"أنى أتفهم ما تقول لكنى هنا بصدد مشكلة مدام راندا ."
"ربما أقول ربما قد عرفت بأمر الأخرى لكن الموضوع انتهى و...لا أظن أنها عرفت "
"سيدي إن الزوجة دائما تعلم ،هناك ما يشبه الرادار في إحساسها يجعلها ترى ما تخفيه العيون وتحبسه الصدور "
هز احمد رأسه في أسف، وبدا انه كان يخشى أن يعرف ما عرفه الآن .
من جديد يعاود الكرة... ذات الأقطاب الكهربائية أما راندا تسترخي في هدوء تسبل جفنيها تستقبل أياما جديدة من عمرها و...ترتدي طرحة قصيرة على رأسها، منذ ارتدت الحجاب عندما كانت على وشك دخول الجامعة وهناك زميلتها سعاد تنتظرها تقابلها بابتسامة تغمز لها انه هناك ينظر إليها كعادته من بعيد :
المعجب إياه ."
"انك تبالغين.. ربما لا يقصدني أنا بهذه النظرات ."
ضحكت سعاد في خبث :
"ربما يقصدني أنا ."
-
تدقق في ملامحه انه هو ذات الملامح الحانية والنظرة الدافئة .تريد أن تدوم اللحظة لا تنتهي أبدا لكن شيئا يجذبها بقوة لتبتعد تقاتل في استماتة تريد أن تبقى شيء يخبرها أن ما ينتظرها في ذلك المكان البعيد هو الألم. لا، لا تريد العودة إن هذا هو عالمها أنها تنتمي إلى هنا لكن عالمها يهتز .زلزال قوى يضرب الأرض من تحتها فتجد نفسها تستسلم هاربة من الهول وتفتح عيناها وتجده وقد بدا على وجهه القلق لقد استغرق إنقاذها هذه المرة وقتا أطول من اللازم كأنها استجمعت إرادتها كلها لتظل في حالة اللاوعى وهذا لا يبشر بخير ربما عليه ان يتوقف ويعود إلى المزيد من التحليل النفسي هناك شخص في أحلامه رجل تراه باستمرار لماذا ربما هو بحاجة لمعرفة المزيد عنها .
بعد حوار بسيط في الهاتف مع سعاد اقرب صديقة لراندا يتأكد الدكتور محسن إن هذا الشاب الذي ظنه جزء من ماضي راندا لم يكن موجودا من قبل وان زوج راندا هو أول حب في حياتها إذن الشاب الجديد هو جزء من حاضر ربما اختلطت ذكراه مع ذكريات قديمة هل من الممكن أن تكون راندا قد ضعفت بعد معرفتها لخيانة زوجها ووقعت في الغرام كرد فعل مضاد لظلم أو أذي وقع عليها إن راندا شديدة الرومانسية وهذا واضح من أحلامها التي قصتها عليه وكذلك كلام زوجها إذن ربما عليه أن يعمل كمخبر أيضا أن هذه الحالة استغرقت منه الكثير دون اى بارقة أمل سوى مجرد لقطات أشبه بفلاش الكاميرا تومض للحظات تم تخبو ليسود الظلام من جديد ..وبعد إن راندا زوجة مخلصة بحق لا يوجد في حياتها سوى زوجها وابنتها، وهذا يعيده إلى البداية زوجة مصدومة.
***
اعلم انك لا تتذكرينني لكنك كنت ومازلت حبيبتي الوحيدة ..أنا اعلم أنى أخطأت في حقك لكن لكل منا كبوة فهلا تغفرين .."
ولم يستطع ان يكمل وألقى نفسه بين ذراعيه يسكب دموعا لم يظن انه يملك مثلها ،أما هي فوجدت نفسها تشعر بالشفقة تجاهه رغم أنها لا تدرى عما يتحدث هذا رجل عاشق بالفعل، ليتها تستطيع أن تمنحه ما يريد ليتها تستطيع أن تريحه
هناك حيث السماء زرقاء صافية والأرض خضراء زاهية وهى معه تسمع أنغام آتية من بعيد :
"أبقى معي لا ترحلي ."
تنظر إليه في وله :
"إنني أريد لكن .."
يقاطعها :
"لا يوجد في الحب لكن إما أن تختاري أو ترحلي للأبد ."
تستسلم لكلماته كأنها سحر، لا لن ترحل .
***
الو"
"د.محسن إن راندا لا تستيقظ."
-
أجابه الصوت ملتاعا أما محسن فقد هب من مكانه وقد أدرك أن الكارثة قد حدثت بالفعل وبات الأمل ضعيفا جدا .
رقدت راندا على سرير المستشفى وباتت كملاك نائم لقد انتصر عقلها الباطن وربح الجولة الخيرة ودخلت راندا في غيبوبة إرادية .
فكر محسن ربما لو استطاع شيء أن يجذبها إلى عالمها الحقيقي ربما استعادت السيطرة على وعيها وعادت الى الحياة من جديد وهنا تذكر طفلتها ان عاطفة الأمومة عند المرأة أقوى ما تكون لكن كيف يفعلها .
***
لازلت راندا تراقب القمر من نافذتها شعرها الذهبي ينساب كشلال على كتفيها و..تسمع ذلك النداء البعيد ..ذلك الصوت الواهن يبكى ,,تبحث عن صاحب الصوت فلا تجده تبدأ الكلمات تتضح تدريجيا ماما .. ماما صورة خاطفة لذلك الكائن الصغير تلمع إمامها تتلفت يمينا ويسارا تبحث عنه تشعر بنفسها تطير تطفو الى أعلى، إلى أعلى وتفتح راندا عينها لتجد ابنتها نائمة إلى جواره وتلك الأقطاب موصلة برأسها ,تتساءل في دهشة عما تفعله في المستشفى .
تمت