لقاء عابر
مرسل: 17 يوليو 2009, 8:47 pm
زفرت في ضيق حتى كادت تطير كل الأوراق التي تبعثرت هنا وهناك على مكتبها...نظرت في ساعتها والتي بدت رتيبة بطيئة وكأنها تحمل ثقلاً يفوق الثقل الذي تشعر به..سمعت صوت الجرس أخيراً..تنهدت في إرتياح ،وكثيراً ما تتعجب كيف تشعر بكل هذه المشاعر السلبية تجاه العمل رغم عشقها له وإجتهادها ونجاحها فيه..ولكنها لم تتوقف كثيراً اليوم عند هذا التساؤل بل انتفضت تلملم الأوراق بيد مدرية إعتادت ذلك...أغلقت كل الملفات وانطلقت خارج العمل...لم تفكر في مكان بعينه تقصده..تركت لقدميها القرار ...تمهلت في خطواتها وراقبتها بنظراتها وهي تبدو شاردة لمن يراها إلا أن رأسها كان خال تماماً من الأفكار...كثيراً ما يراودها ذلك الشعور فتقرر أن تتخلص منه بشيء من التغيير وخرق للروتين اليومي من عمل وعودة مباشرة للبيت أو حتى بتغيير عادة من عادتها كأن تهتم مثلاً بأناقتها أكثر كما فعلت اليوم ..انتقتها بعناية حتى أنها رأت الإعجاب في عيون زملائها بصورة أخجلتها..وتعجبت من سر العلاقة بين تصرف بسيط كهذا ومعالجة الشعور بالرتابة أو حتى أثره في التخفيف من شعورها به!!..ابتسمت ابتسامة خفيفة عندما طرأ على رأسها هذا التساؤل...ومضت في طريقها ترقب الناس وترقب ملامحهم التي تهوى قرائتها وتعجبت كثيراً حين لاحظت أنها تسير منذ ساعتين ولم تلق وجه بشوش أو من يبتسم سهواً..فابتسمت هي للفكرة أو لنقل عوضاً عن كل هؤلاء...الكورنيش...ساحر ما هذا التلألأ الرائع الذي يعكسه...ما سر هذا النسيم ...توقفت للحظة تملأ رئتيها بنسيمه العليل وهي ترقب هدوء النيل واغمضت عينيها في استكانة وتنفست بعمق وهي تفتح عينيها من جديد والتفتت..فرأته ...رأت مكان تعرفه جيداً ورغم ما يحمله لها هذا المكان إلا أنها شعرت تجاهه بحنين جارف دفعها أن تقترب منه ،وتقترب ..وتقترب أكثر بقدم مترددة...إلا أنها حسمت ترددها ..فهي دائماً ما تؤمن أنه من أخطائنا أن نربط بأذهاننا الأماكن بالأحداث خاصة السيء منها ...فالمكان بريء من جنايا البشر فدائماً ما سخرت ممن يكرهون مكان فارقوا فيه حبيباً أو فقدوا فيه عزيزاً وتطبيقاً لما تؤمن قررت الدخول...فدلفته...ودارت بعينيها في كل ركن فيه حتى اصطدمت عينيها بمن لم تتمنى مطلقاً أن تراه...ولكنها رأته...إنه هو...تجمدت في مكانها وتجمدت عينيها عليه للحظة ..وارتعدت ...انتفضت بشدة... وعلت دقات قلبها ،ولكن عنادها استيقظ دفعةً واحدة ..بل نهض وبكل قوته وانتزعها...فعدلت خطواتها وبحثت سريعاً عن مقعد خال..ولم تجد سوى مقعد خلفه ...خلفه مباشرة...فتوجهت إليه بكبرياء واحتلته بثقة بدت في أول الأمر مفتعلة لم تلبث وأن تحولت إلى ثقة حقيقية حين تأملته قليلاً...يبدو محطماً...مهزوماً...يروق لها أن تراه كذلك...يحتل مقعداً لا يملئه ..إنه منكس الرأس يعبث بشيء أصغر منه لا تميزه...حتى ملابسه بدت مهلهلة غيرمهندمة..يستند برأسه على كفه ..يأخذ وضعاً مائلاً وكأنه يؤول إلى السقوط أو يتهاوى ..صحيح أنها لا ترى عينيه إلا أنها بدت لها حزينة ...مكسورة..وتروق لها بحزنها وإنكسارها...هل رآها بدوره يا ترى...لا يبدو عليه أنه لمحها...ولكن ما سر حزنه؟
هل ينعيها ويبكيها؟... هل يندم عليها لذلك هو هنا...
وتردد صوت في نفسها يقول :
"جئت تنعيني يا هذا في مكاننا الشاهد علينا ؟ كنا نتسامر ها هنا..نتحاور...ونتهامس...نحتسي شراباً ساخناً في الشتاء...وربما شيئاً بارداً بدعوى الجنون وإنطلاق الشباب...فلماذا تبدو كهلاً اليوم؟...هل فقدت شبابك كما فقدتني؟...كنا نجلس ها هنا وترقبنا الأعين تختلس النظر إلينا كلما امتزجت ضحكاتنا الصافية.. فمن عكرها؟...عرفني الناس هنا بك وعرفوك بي..حتى باتوا يتوقعون الآخر فور ظهور أحدنا...أتذكر التفافنا حول طاولتنا الصغيرة هناك بين الأعشاب؟واليوم أنت هناك وحدك ،وأنا هنا أرقبك على مقربة بعيدة..فمن أبعدني...طأطيء رأسك يا هذا ...أكثر ..طأطئها أكثر..فهي تستحق ألا ترى إلا محل الأقدام.
اتبكي دون دموع؟...
رائع فالدموع راحة لا تستحقها...
وعلام تستجدي دموعك يا ترى؟...
علي؟!!!
ومن ضيعني؟
من أحرقني ولوعني؟
من نحرني ؟
قل لي يا هذا من صلبني؟
أتذكر كم مرة همست في أذني هنا تعدني بغد رائع؟
طأطيء أكثر برأسك ...طأطئها بمقدار ما بذلته لأجلها وأجل رفعتها ورفعة هامتها.ابك يا هذا ..ابك بمقدار ما أضحكتك رغم كل أوجاعي وهمومي...ابك بمقدار ما واريت عنك أحزاني...ابك بمقدار ما استحلت أناتي بابتسامتي وأهديتها إليك لأبعث في نفسك أملاً أفتقده ،وأدب في قلبك حماساً لا أجده."
شعرت بالزهو يملؤها وتذكرت حالتها يوم غدر بها...ظنت أنها لن تعيش كثيراً بعده ومضت الأيام وتوالت النجاحات بتوفيق من الله وكأنه العوض والجزاء على الصبر،واليوم يهديها القدر هذا اللقاء لتشهد بنفسها انتصارها وانهازمه...علوها وسقوطه... ..فالظلم حمل ثقيل على أعتاق صاحبه ..لعنة تظل تطارده حتى يقتص منه الزمن قصاصه العادل.. وهو سحقها يوماً بلا رحمة واليوم يبدو كبشرى للقصاص...بدت الصورة واضحة،وتعجبت لنفسها أن رأت في ذلك الكهل شيئاً يستحق النظر...التفتت إلى النادل في ثقة وهي تقول:
- "نسكافيه".
ألقى عليها التحية في ود ..بدا أنه يتعرفها جيداً...ردت التحية باهتمام وحثته على تحضيره لها سريعاً.
أما هو فقد نهض ببطء ثقيل...ومضى ..بل تلاشى ..توارى عنها ..وتسائلت من جديد هل رآها يا ترى؟...كادت تجزم بأنه لم يفعل..ولم تلبث وأن قررت ألا تشغل بالها بالأمر كثيراً...حتى جاء شاب وفتاة ليجلسا مكانه...وأخذا يتهامسان ويتسامران ويطلقان ضحكات صافية من آن لآخر..أخذت تختلس النظر إليهما من آن لآخر وهي تستمتع بالنسكافيه الذي تعشقه وكأن شيئاً لم يكن ...وزاد زهوها حين بحثت عن أي أثر له بداخلها ولم تجد..ونادت النادل وسألته:
- "الشيك"
أشار بسبابته تجاه الطاولة المقابلة لها وهو يقول بلهجة روتينية:-
- الأستاذ اللي كان لواحده هنا دفع!!!!!