الشهر التاسع, حرية (قصة قصيرة), المركز الأول: إيناس حليم
مرسل: 21 أغسطس 2009, 11:50 pm
مسابقة الشهر التاسع - 2009
مجال القصة القصيرة
بعنوان
(حرية)
المركز الأول
إيناس حليم
***
تستيقظ من فراشك كعادتك في الرابعة والنصف عصرا.. تزيح الغطاء عنك في هلع وتتجه بسرعة غريبة إلى نوافذ غرفتك.. تتأكد من إحكام غلقها جميعًا واسدال ستائرها الارجوانية القاتمة من قماش القطيفة..مجال القصة القصيرة
بعنوان
(حرية)
المركز الأول
إيناس حليم
***
فقط شعاع واحد استطاع أن يتسلل عبرهم إلى أرض الغرفة ليكون خطًا طوليًا من ضوء خافت انعكس جزء منه في مرآتك.. ليريك مدى شحوب وجهك.. ودمامة قسماتك..
شعاع خافتٌ جدًا..
لكنك تحاول الابتعاد عنه قدر المستطاع..
تقف أمامها لمدة الساعة والنصف.. تتأمل تلك البشرة ناصعة البياض كما الورقة، وذلك الشعر البرتقالي المائل إلى الصفار ورموشك التي اصطبغت بنفس اللون تقريبًا لتصوغ إطارا باهتا لعينين زرقاوين.. خاليتين من أي معنى..
تمتد أصابعك البيضاء إلى وجه المرآة محاولة التعرف على ملامحك.. يتملكك شعور غريب بالانفصام.. تتقمص دور صبي غجري أسمر ذو شعر فاحم ورموش سوداء كثيفة تزهو بها زرقة عينيك..
أمهق..
تشعر بالمرارة كلما تذكرت تلك الكلمة التي نعتوك بها منذ الصغر.. تتذكر أقرانك في المدرسة ذات الفترة المسائية حيث كنت تنتظر الغروب كي تذهب إليها.. تتذكر تفاصيل أول يوم لك في الفصل رغم مرور زمن عليه..
تتذكر أيضا تلك النظرات والهمسات والضحكات المكتومة التي لا تُخبر إلا بأنك جسم غريب دخل عالمًا لا يستوعب كثيرا الغرباء..
ترضى أحيانًا.. وتحزن في معظم الأحيان..
تمقتُ ذلك الميلانين الذي تفتقد إليه وراثيًا بشكل مبالغ فيه يجعلك تهلع من مجرد فكرة الاحساس بالشمس..
مسكينٌ أنت..
تُقر بأن معاناتك النفسية لا يتفهمها غيرك.. تتعذب بتلك الروح المغلفة بالاحساس بالنقص.. تتخذ من الشمس عدوا.. ومن الليل حياة.. ومن الظل مأوى وسجنًا..
مسكينٌ أنت..
أسير لخوفك.. وضبابات مرآتك..
وحلم قديم باحتضان الشمس..
تمر عبر خاطرتك أيضًا أيامك الجامعية وتجنبك لحضور المحاضرات النهارية.. واكتفائك بتصويرها من الزملاء..
الزملاء.. مشكلة عانيتَ منها كثيرا ربما بفضلهم..
وربما بفضلك...
تفيق من بحر شرودك وتأملاتك وذكرياتك وتبتعد ببطئ عن المرآة.. تضيئ أنوارك "النيون" وتتجه إلى الحمام ثم تخرج لترتدي ملابسك الأنيقة وتترك جدران المنزل الموحش بأفكارك..
كي تبدأ مساء يوم جديد..
تقف أمام ذلك الباب الزجاجي للفندق الذي تعمل به كمحاسب محترف - يشهدون لك بذلك رغم تعجبهم لانطوائيتك -..
يتسلل شدوٌ ملائكيٌ جديدُ الوقع على سمعك.. يُخبرك أحد العاملين أنها "السوبرانو" الجديدة من معهد الموسيقى..
تتجه ببطئ إلى صالة الاستقبال لتراها.. جميلة خمرية البشرة.. شعرها كستنائي طويل ينسدل على كتفيها ويمتد إلى نصف ظهرها.. ترتدي فستانًا أسودا مكشوف الذراعين.. تقف في المنتصف وحولها مجموعة من العازفين يرتدون بِدلاً سوداء أنيقة ويصوغون مع ملائكية صوتها لحنًا استطاع أن يعطر المكان ويستثير كل من حوله..
كما استثارك..
تنهي فقرتها فيتبعها تصفيق حاد.. يتجه أحدهم إليها ويقترب منها في ثقة.. تلمحها أنت من بعيد.. تراه يمسك ذراعها بحنو واضح وتمشي معه باستسلام تام..
تنظر إليها في صمت..
تتسلل إلى مشاعرك نشوة حذرة.. تجعلك تسير خلفها من بعيد فتلمحها تتجه إلى الغرفة المخصصة لتغيير الملابس.. تنتابك رغبة قوية بالتخلي عن حذرك والاستعداد لتحمل تلك النظرة.. التي تمقتها منذ زمن..
فقط نظرة منها تكفيك.. وإن آلت بعدها إلى الأرض..
تقف خلفها مباشرة.. خائفا.. مرتبكًا.. مستكينًا..
تشعر هي بحرارة لأنفاس خلفها فتستدير لتكتشف كنهها..
تستسلم أنت لعينيها.. ولأول مرة.. لا تؤول نظرة أحدهم بعدك إلى الأرض..
أو أنها في الواقع لا تؤول إلى شيئ..
ضريرة.. نعم إنها ضريرة.. ولكنها تبتسم..
تحيا في الليل الدائم الذي تمقته أنت.. ورغم ذلك تبتسم..
منذ ذلك اليوم وأنت تجوب معها كل الشوارع والنوادي والمسارح.. تستمتع معها بالمساء بكل نجومه وأقماره ونسماته..
تستمتع كثيرا.. وتحبها كثيرا.. تشعر معها بالاستغناء عن الأصدقاء.. وعن العالم..
وعن الشمس..
ولأول مرة منذ سنوات.. تبتسم من كل قلبك..
ولأول مرة منذ سنوات.. تشعر بمعنى جديدا..
لأن تكون حُرا..