للكتابات و المناقشات حول الحب, ليس بمفهومه الرومانسى فقط, ولكن بمفهومه الواسع فى كل حياتنا, والحديث عن المشاكل والعقبات التى تواجه هذا الحب وكيفية التغلب عليها.
أما عن شرط المحبوب : فهو أن يتوافر فيه نوع من أنواع الجمال،
ولا يشترط هنا الجمال الحسى أو الظاهرى، فالجمال المعنوى أو حتى الإيحاء بالجمال يكفى.
فهناك من أحب فتاة لأنه رآها تحنو على طفل فهام بحنانها وعشقها،
وقد يكفى الإيحاء بالجمال كأن يكن للمحبوب مثلا فضل كبير على المحب، فيأثره ويكبله بجماح الإعتراف بالجميل الذى لا يغدو أن يصير حباً جماً.
أما عن شرط المحب : فهو أن ترق مشاعره،وتشف روحه،وتسمو معانيه،
فيتذوق نوع الجمال الموجود فى المحبوب،
فغالبا ما تجد العتاه أبعد ما يكون عن الحب.
أما عن شرط الميل : فهو أن يعرف الحب بوجود المحبوب على وجه البسيطة،
وأن يعلم بوجود هذا النوع من الجمال الذى يتمتع به المحبوب.
ولا يشترط هنا الرؤية كما يطن البعض، خاصة إذا ما كان جمال الحبوب معنويا،
وهناك القصة الشعبية التونسية المأثورة التى تحكى عن (عزيزة حبت يونس ع السمعة ما رأته).
فإذا توافرت هذه الشروط فإن شعاعا من جمال المحبوب يخرج بالمعرفة فيخترق قلب المحب،
ثم ما يهدأ إلا وقد جاس عبثا بكل الجسد،
وكلما كان الجمال أقوى، وكلما كان المحب مفتوح الإحساس، قابلا أكثر للشعور، كلما كان الميل أوقع فى نفس المحب، فلا يغدو إلا هيكلا يحيا من أجل المحب.
وقد يزداد الوله فيرقى إلى مراتب الوله والتتيم،
فيصبح المحب خاليا من كل شئ إلا الحب،
فهو يأكل ويتنفس ليحيا فيحب.
وكثيرا ما نسمع عن قصص النحول، والزهد فى الدنيا، والشرود وفقدان العقل التى أصابت المحبين.
أما إن كان المحب نفسه يحمل نوعا من الجمال، وكان نفس المحبوب قابلة للشعور، فتذوقت هذا النوع،
فهنا يصبح المحب محبوبا ومحبا فى آن واحد،
وهكذا المحبوب يغدوا محبا لمحبه،
فيصبح الحب متبادلا بين الطرفين.
لكن هذا نادرا ما يحدث،
أما لو حدث فإنها تصبح قصة خالدة، يسطرها التاريخ، كعنترة وعبلة، وروميو وجوليت وغيرهم كثير …
أما إن أنصرف المحبوب عن محبه بحب محبوب آخر، يصبح هنا الحب من طرف واحد، ولعل هذا أصدق أنواع الحب، فإن المحب إن لم ينل، يعطى أكثر، ويذوب حرمانا أكثر، وتصبح معاناته فى حدها حبا يسطر،
فكما قال الإمام بن القيم (الحب دقت معانيه لجلالتها فلا تدرك إلا بالمعاناة).
ويستعذب هنا المحب كل أنواع الهوان والتجاهل التى يراها من المحبوب،
بل وتصبح لازمة لشعوره بوجوده،
وقد قال أحدهم (فما لجرح إذا أرضاكم ألماًً)
ويحكى لنا الأصمعى هنا قصة
أنه مر على صخرة مكتوب عليها :- أيا معشر العشاق بالله خبرونى … إذا حل عشق بالفتى كيف يفعل
فرد عليه الأصمعى وكتب :-
يدارى هواه ثم يكتم سره … ويصبر فى كل الأمور ويخشع
وفى اليوم التالى مر فوجد بيتا آخر من الشعر ردا لما كتب :-
كيف يدارى هواه ويكتم سره … وقلب الفتى كل يوم يتقطع
فرد عليه الأصمعى كاتبا :-
إن لم يجد الفتى صبرا لكتمان سره … فليس له سوى الموت أنفع
وفى اليوم التالى مر الأصمعى فوجد شابا ميتا تحت الصخرة وقد كتب :-
سمعنا وأطعنا ثم متنا فبلغوا … سلامى إلى من كان للوصل يمنع
عجيب هذا الحب ..!!
هل تعقل هذه القصة ..
ألهذه الدرجة وصل الحب والعشق ؟،
أصبح الرجل يموت وكل مناه فقط أن يصل سلامه لمن يحب؟،
ألهذه الدرجة أطاع حبه، فأطاعه جسده، فمات سمعا وطاعة لنصيحة فى الحب؟.
يا سبحان الله …
وهناك العديد والعديد من أحوال العشاق وعجائبهم فى الحب،
والعديد من الكتب التى أفردت لهذا المجال،
والأئمة الذين تحدثوا فى هذا الموضوع كالإمام أبن قيم الجوزية وبن الجوزى وابن رشد وابن تيميه وغيرهم، ولا ننسى جميعا كتاب طوق الحمامة فى الألفة والألاف.
ولقد صدق الشاعر عروة بن حزام حين قال :
وما عجبى موت المحبين فى الهوى … لكن بقاء العاشقين عجيب
ولنعد لأدراجنا فى الحديث عن الحب دون الغوص فى أى مفردة من مفردات الحديث عنه،
فنحن لا نملك الجرأة أو القدرة على ذلك.
أما عن مراتب الحب أو مراحله فهى كثيرة ونوقشت كثيرا،
فقد قسموها إلى العديد من الدرجات بين الود والحب والعشق والوله والتتيم وهكذا،
لكنا لن نهتم بهذه المراحل فهى لا تهمنا،
والأقزام فى الحب أمثالنا لا يهمهم فى أى درجة من مراتب الحب هم، بقدر ما يكفيهم أن يعرفوا هل هم الآن فى حالة حب أم لا.
أما عن أنواع الحب فقد قسم الحب لأنواع مختلفة، استند التقسيم فيها إلى المحبوب.
فكل نوع من أنواع الحب تختلف باختلاف المحبوب، نظرا لأن المحب فى جميع حالاته محب، يعشق ويهيم.
فهناك حب الجنس الآخر، وحب الوطن، وحب الأم، وحب الرسول، وحب الله …. إلى أخره.
ولعل أسمى هذه الأنواع هو الحب الإلهى،
وهذا النوع من الحب هو ما ستفرد بقية مقالنا.
والحب الإلهى هو الحب الذى يتوجه فيه المحب إلى خالقه الله، وهناك العديد ممن هاموا فى هذا الحب،
كابن الفارض ورابعة العدوية وغيرهم.
لكن لما قلنا أنه أسمى أنواع الحب ….؟؟؟
فقد يأتى من ينكر علينا هذا القول ….
لذا فلنحاول أن نعرف سويا هل هو حقا أسمى أنواع الحب أم لا …
ولنسلك فى سبيل هذا الغرض عقد مقارنة بين زوج من المحبين،
أحدهما أحب امرأة وهذا هو ما يلتاع فيه جم المحبين، والآخر أحب الله (الحب الإلهى).
قلنا فى البداية أن الحب يحدث عندما يخرج شعاع من جمال المحبوب إلى المحب:
فى حالة من أحب امرأة، فأيا ما كانت تلك المرأة لن تستطيع أن تتحلى بأكثر من نوع أو نوعان من أنواع الجمال، فلا يوجد إنسان كامل حتى الآن.
أما فى الحب الإلهى، فإن الله جميل، وهو الكامل المطلق الوحيد، والمنفرد بالكمال وحده فى ذاته، هذا بالإضافة لكونه يملك كل الجمال المعنوى، كما أنه ذو فضل عظيم على المحب، فهو واجده ورازقه ومحييه ومميته، فهو كل شئ فى الحقيقة للمحب، ولولا فضله ما كان المحب، ولا تنفس الوجود.
أما عن شرط المحب فلن نتحدث عنه، فقد ربطنا بين أنواع الحب والمحبوب فقط.
أما عن شرط الميل وهو المعرفة :
ففى حب الرجل للمرأة، قد تتواجد المرأة وقد يتوفر لديها نوع الجمال الذى يعجب المحبوب، وقد تأتى الظروف ويراها المحب، ولا يلحظ الجمال فيحتاج إلى إخبار.
أما فى حب الله فهنا لا تتيسر الرؤية، فالرؤية هى جائزة المحب فى نهاية المطاف ومكافأته،
لكن المعرفة موجودة، فالكون كله يدل على المحبوب (الله) وينبأ عن جماله العظيم،
فكما قال الإعرابى (إن البعرة تدل على البعير، والسير يدل على المسير، ألا يدل الكون كله على وجود الخالق القدير)
ومن أغلقت نفسه ولم يشعر بالمحبوب وهو الله، فإن الله يرسل له من يعلمه بوجوده، ويخبره بجماله مع أنبيائه ورسله.
أيضا فى حب المرأة نجد أن الرجل الذى يحبها، إن صدق عشقه، فإنه يتيه سعيا وراء محبوبته، يطلب ودها ويرجو قربها، علها تترفق بحاله، ودائما ما يقسو المحبوب، خاصة إذا كان المحب لا يتوفر له أى أنواع الجمال التى تجذب المحبوب.
أما فى الحب الإلهى فإننا نجد أن المحبوب هو الذى يبدأ بالحب للمحب (يا سبحان الله) حتى وإن كان هذا المحب معدوم الجمال.
وهنا وردت العديد من آيات الدعوة للقربى إلى الله، ألم نسمع جميعا على سبيل المثال الحديث القدسى الذى ينادى الله فيه محبيه من عبيده (يا عبدى أنا لك محب، فبحق عليك كن لى محبا)
– يا الله –
ما أروع هذا المحبوب الذى يطلب الحب وهو فى غنا عنه، وما أعظمه جميل.
أيضا قلنا أنه عندما يحدث الميل فإن شعاع الحب يخرج من جمال المحبوب ليخترق قلب المحب ثم يعيس فسادا فى باقى أجزاءه فيصيبه ما يصيبه من نحول وشرود وتيه ومرض وجنون.
وهذا يحدث فى حب المرأة، وكثيرا ما سمعنا عن مصاريع العشق، ومجانينه، فيهيم الواحد منهم، تارك بلاده وأرضه، لاهيا عن زاده وماله، حتى يجده الناس ملقا بأرض فلاه لا حراك فيه، وأصابه العفن.
أما فى الحب الإلهى فإن الحب يواجه ما يواجهه المحب العادى للمرأة من شرود، لكنه لن يفقد حياته ويصبح كما مهملا مثله لا قيمة له.
إنما فى الحب الإلهى يهيم المحب كما شاء فى محبوبه، ويزهد فى الدنيا كما يشاء،
لكنه لن يفقد شيئا،
بل سينال أكثر، ويعلوا قدره أكثر،
فمحبوبه كفيل به وبحمل شأنه ومراعاته،
ولقد قال لمن أطاعه بالحب ( يا عبدى أطعنى تكن عبدا ربانيا يقول للشىء كن فيكون) وحتى من قالوا بضعف هذا الحديث فالآيات القرآنية عديدة والأحاديث أكثر عن فوز وثوبة من يطع محبوبه الله تعالى
–يا الله-
يقول للشىء كن فيكون،
وهل على هذا المحب خوف من ذبول ونحول،
حتما سيطعمه الله ويسقيه، وإن اشتهت نفسه شيئا من دنياه، فهو مجاب الطلب لدى محبوبه،
هنيئا لأولئك المحبين !!!!
أيضا مما يحدث فى حب الرجل للمرأة، أنه إذا أحب رجل أخر نفس المحبوب أو نفس المرأة -فقد يحدث أن يجذب جمال المحبوب محبان- هنا تضع الحرب أوزارها، وتتقد ما نطلق عليها الغيرة، وتصل لدرجة تقاتل المحبان فى سبيل حبهما، ودفاعا عن محبوبهما،
كما قال الشاعر أبو تمام :
أغار من القميص إذا علاه … مخافة أن يلامسـه القمـــيص
وقصص الغيرة كثيرة جدا ..
أما فى الحب الإلهى .. فلو أجتمع الآلاف فى حب المحبوب الواحد (الله)
بل لو أجتمع العالمين على حب الله، فلا غيرة ولا تحاقد ولا قتال بينهم.
بل العجيب أنه سيحدث العكس،
سيتحابون فى حب الله.
-الله –
أما لو تكلمنا عن نهايات الحب، فإن الحب لا ينتهى، لكن المحب هو من ينتهى، أو المحبوب هو من ينتهى،
أو قد يتواجدا لكن بلا لقاء،
فأثقل ما يعانى منه المحبين فى الحب العادى هو الفراق.
أما فى الحب الإلهى : فإن أقسى ما يواجهه البشر فى حبهم من أنواع الفراق – بل فى حياتهم عامة -
هو الموت.
فالموت هو المسمى هادم اللذات ومفرق الجماعات،
تخيلوا أنه فى الحب الإلهى لقاء – يا سبحان الله –
إن المحبين لله لا يهابون الموت،
بل يفضلونه عن الدنيا وزخرفها،
فالموت لقاء بالمحبوب،
يا الله بالموت يحين للمحب لقاء حبيبه،
حتى الموت يا أهل الحب أصبح جميلا.
ما أجمل هذا الحب الذى أحال أقسى ما نكره حبا ولحظات لقاء رائعة الجمال.
ورد فى الأثر فى هذا المجال أنه عندما أتى عزرائيل إلى سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام ليستأذنه فى أن يقبض روحه، قال له إبراهيم :
هل يقبض الحبيب حبيبه يا عزرائيل؟
فسمع صوتا من السماء يقول :
وهل يكره الحبيب لقاء حبيبه يا إبراهيم ؟؟
فقال سيدنا إبراهيم :
الآن فأقبض يا عزرائيل.
يا الله ،
نعم اللقاء،
ونعم الحب،
ونعم المحبوب.
لا نملك الآن إلا أن نوقف كل كلامنا عن الحب وأنواعه ودرجاته … ألخ،
فما عاد يجدى.
لا نملك الآن إلا أن نتوجه إلى هذا المحبوب بحق وندعوه:
اللهم أدخلنا فى زمرة محبيك،
اللهم ابسط لنا حتى نذوب فى حبك،
اللهم يسرنا لهذا الحب، ويسر قلوبنا له، وأضىء أرواحنا بنور حبك يا كريم.
حقا لا حب وحب الله ممنوح لنا.
اللهم أنت مالك القلوب تقلبها كيف تشاء، اهدها إلى حبك يا جميل يالله.