مجال القصة القصيرة
بعنوان
(حرية)
المركز الثالث
الزهراء
***
عندما تقدم لخطبتي شاب مرتاح ماديا و ذو مركز مرموق و مواصفات تدل على أنني سأعيش حياة مريحة دون أن أتعب أو أتذمر في يوم من الأيام ،فرحتُ كثيرا فهذا ما تحلم به و تتمناه كل فتاة و قد كان عمري حينها لم يتجاوز العشرين و رغم ذلك وافقت فورا و أنا التي ظللتُ أدعي لوقت طويل أنني مختلفة و لستُ كبقية النساء ، و لن أكون ...
و لكنني رضختُ و استسلمت لأول إغراء و فورا وقعت في ذلك الفخ ، و علمتُ أنني لا أختلف كثيرا عن جارتنا ، تلك التي قبلت الزواج برجل في سن والدها فقط لأنه غني ، فكنتُ عند ذاك حبيسة ذلك النمط من التفكير و كنت حينها امرأة عادية
................................
و مرت سنتين ...كنت قد اعتدتُ فيها على حياة القصور فسبحة الأرجاء ، خالية العباد ...
كنت أعيش حياة الملل و أتجرع كؤوس الندم .. وحيدة بلا أنيس ، مرغمة على احتمال رجل لا يفقه سوى حديث الشغل و متاعبه ، و الأولاد و أهمية وجودهم في الحياة. ...
.. و عندئذ فكرتُ في أمر ما و عزمتُ عليه ...
.. و عرفت حينها أنني لست بامرأة عادية
..............................
واجهتُ والدي المعروف بمزاجه الصعب و تفكيره التقليدي و تمسكه برأيه .. و رغم كل هذا أرغم أمام إرادتي القوية أن يرضخ ، و اتخذ الصمت احتجاجا على قراري في الانفصال عن زوجي
و لا أعلم حقا إن كان قراري هذا نابعا عن المرأة التي تظهر للجميع أم أنه قرار المراهقة التي مازلت تسكن أعماقي..
.............................
و لم أستسلم بعدها للظروف ..و لم أقف عند وصف مطلقة ، فانطلقت باتجاه الحياة أغوص في تجاربها ...
فعزمت على إتمام دراستي و تفوقت في الدراسات العليا و كانت لي الفرصة في أن أتعرف على أكبر قدر من الرجال و أخوض تجارب ، أكدت لي صواب القرار الذي اتخذته بأن أختار الحرية بدلا من أي خيار آخر ...
و إن كان معظمهم يبدأ في سل خيوطه بمجرد أن يسمع كلمة مطلقة ...
..نعم حتى المثقفون يعيرون اهتماما لهذه التفاهات ...
.............................
إلى أن التقيته ، يوسف..كان فنانا مبدعا ، لوحاته فيها جرأة و تحمل رسائل العصيان لمجتمع مكبل و مقيد بأفكاره البالية ....
جعلني أحس أنني وجدتُ نفسي و دفعني بأفكاره المتحررة و نظرته المختلفة للأمور، للانطلاق أكثر دون أن ألتفت ورائي ...أو أن يستوقفني شيء ما ..
..............................
...لم تبقى سوى أيام قليلة على افتتاح معرضه الثالث..كم كنتُ متشوقة لأرى صورتي التي رسمها لي ..
و كم كانت جميلة ، فيها دلائل امرأة متطلعة و متحررة ، بنظرات ثاقبة و أخرى جريئة ، يشعرها المرفوع إلى الأعلى و العقد اللولي الملفوف حول رقبتها الطويلة الناصعة البياض ، و ابتسامة ساحرة ...
غير أنها و بكل تلك المواصفات ، لم تضاهي جمال لوحة أخرى كانت بجوارها ...لوحة جعلتني أتوقف عندها كثيرا ...
ببساطتها و عمقها تثير الرغبة بأن لا تزيح نظرك عنها ، أسرتني نظرات تلك المرأة المملوءة بالدفء ، كانت ممتلئة الجسد ، بريئة الملامح ، تغطي شعرها بخمار أسود و خصلات منه تزين ذلك الجبين الأبيض فزادت من جمالها و بهائها ...
أما ضمها وليدها لصدرها فقد حرّك فيا مشاعر غريبة ..بل أيقظ غريزة ظلت دفينة بداخلي لزمن طويل ..و جعلتني أحلم و أتمنى لو كنت مكانها و في المقابل جعلتني أنبذ لوحتي تلك التي بدوتُ فيها جميلة و ملفتة ...
............................
علّقتُ اللوحتين في غرفتي و كنت في كل مرة أمعن النظر فيهما و أتساءل ، لماذا تجذبني تلك اللوحة أكثر من الأخرى التي تعبر عني غير أنني لا أحس نفسي فيها ...
قد أكون حققت أحلام المراهقة و الشباب ..و لكنني اليوم في سن تدفعني لأتساءل ، من أكون ؟ أين أنا من هاتين الصورتين ؟
و بعد طول تفكير وجدتني أقف في المنتصف ، فلم أعد تلك الفتاة الصغيرة الطامحة للحرية و المتطلعة لحياة الانطلاق ..و لست أيضا تلك المرأة الساحرة ، القوية ، التي اختارت البساطة و اختارت أن تكون عادية فكانت في نظري مميزة ...
............................
و صارحت يوسف بالصراع الذي أعيشه، و برغباتي و أحاديث نفسي غير المتناهية ، و حاجتي أن أكون مثل باقي النساء و أنه قد حان الوقت لذلك ..إن لم يكن تأخر كثيرا...
و لكنه صدمني برأيه فهو لا يراني سوى تلك المرأة التي رسمها في لوحته ..أما تلك التي أصريت على أخذها فلا تمت لي بصلة ...
كما أنه يعشق الحرية و لن يربط نفسه و يندفن في معترك الحياة و روتينياتها ...
.............................
كانت كلماته كصفعة أيقظتني من رحلة أحلام دامت طويلا ، و مشيت وحيدة ، خائبة ، و تذكرت صمت والدي ..كم كان صمته بليغا و له عواقب و آثار ...
و في زحمة المدينة رأيته في سيارته الفاخرة ، على وجهه علامات السرور و بجانبه امرأة فائقة الجمال ، ممتلئة الجسد و ذات عينين براقتين ، و في الخلف ..طفلان ....
كان ذاك طليقي .....
ابتعدت بسرعة خشية أن يراني و ظللت أمشي و أمشي ، تائهة بلا وجهة أو طريق و بدأت في الانزواء و الابتعاد عن الآخرين و ربما سأختفي عن أعين الجميع و سأتخذ الصمت حديثا لي ...
...فقد اكتشفت في الأخير يا والدي أنني امرأة أقل من عادية .............